شاهد من العصر الحلقة الأولى

 

رهبة قوية نشعر بها أثناء الحديث مع البروفيسور محمدعلي/ عمر الفرا، شخصية قوية عصامية تبوأ مناصب عديدة في المجال الأكاديمي له العديد من المؤلفات والابحاث والمقالات السياسية وشارك في إعداد الموسوعة الفلسطينية وتعاون مع دار جامعة اكسفورد للطباعة والنشر ومؤسسة جيو بروجيكتس في بريطانيا في اصدار الكثير من الأطالس والخرائط عن مختلف الأقطار العربية له مساهمات متميزة في الصحف ومحطات الإذاعة والتلفزة العربية والأجنبية وكتب ولا يزال يكتب مقالات تعالج قضايا سياسية واقتصادية واجتماعية. أثناء الحديث معه لاحظنا قوة ذاكرته في وصف طبيعة الحياة والأماكن التي عمل بها، نشعر بحق أنه الأجدر لحمل شعار -شاهد على العصر-. كنز كبير من المعلومات، في كل كلمة نطق بها معلومة جديدة عن تاريخ لم يتم التطرق له  في أي كتب أخرى..ونتيجة لظروفه كان من الصعب تخصيص وقت لنا فالأمر مرهق له لكنه كحال كل عالم حريص على إيصال علمه وزرع المباديء والتاريخ الحق لدى الناس، لهذا فإنه لم يرفض طلبنا وبدأ في الطباعة لنا والإجابة على أسئلتنا.

حلقات "شاهد من العصر" تتناول سيرة هذا العالم واليوم ننشر الحلقة الأولى والتي كانت الأسئلة:  

 

أرجو أن تحدثنا عن نشأتك ومكان ميلادك؟

مراحل دراستك والمدارس والجامعات التي درست فيها؟

متى غادرت مسقط الرأس خان يونس الى الخارج لتعيش مغتربا ؟

نتمنى لكم قراءة ممتعة

 

ولدت بمدينة خان يونس في الثالث عشر من شهر نوفمبر عام1932م وقد اختار لي والدي "عمر الفرا" الذي كان يعمل في التجارة اسما مركبا هو "محمد علي" اكراما لمحمد علي باشا جد الأسرة العلوية التي حكمت من عام 1805م وحتى 1952م حينما انتهت بقيام الثورة بقيادة جمال عبد الناصر.

عائلة الفرا تحب محمد علي باشا فقد حدثني المرحوم المختار مصطفى حسن الفرا أنه لما تحرك الجيش المصري بقيادة ابراهيم باشا ابن محمد علي باشا لاحتلال بلاد الشام من الاتراك ووصل خان يونس طلب من جدنا الاول ابراهيم الفرا الذي كان آنذاك شيخ البلد ان يقدم الميرة للجيش فأبى الشيخ ذلك لاخلاصه للسلطان العثماني فغضب ابراهيم باشا وعد ذلك تمردا وقرر إعدامه ولكن نصحه احد المساعدين بالتريث وواصل الجيش مسيرته نحو غزة ووضع الشيخ في سجنها حيث صودرت فرسه وسيفه



محمد علي باشا - حاكم مصر

 

وعلى الفور توجه فرسان من البلدة للشكوى الى "محمد على" لما سمعوه عن عدله وحكمته وسياسته، ولما سمع محمد علي شكواهم ارسل على الفور لابراهيم باشا ان يطلق سراح الشيخ ويكرمه وقال اريدك ان تظهر لاهل الشام بأنك جئت لتحريرهم من ظلم الاتراك لا تستهل دخول الشام بالاعدام. ولما اطلق سراح الشيخ اقام له ابناء عمومته من ال ابي شعبان في غزة وليمة، استرد الشيخ سيفه ولم يعثر على فرسه وكان يعتز بها فهي عربية اصيلة، وظل يبحث عنها الى ان وجدها عند عرب الطحاوية بأرض الشرقية بمصر.

ولما نزل عندهم اكرموه لما عرفوه واعطوه الفرس بشرط ان تكون لهم ابنتها المهرة وبعدها نشأت علاقة بين عائلتي الفرا والطحاوية، وحينما قامت الثورة في مصر في يوليو 1952 وأصبح احد الضباط الاحرار من ال الطحاوي عضوا في مجلس قيادة الثورة توجه وفد من عائلة الفرا برئاسة رئيس البلدية انذاك السيد عبد الرحمن الفرا والمختار مصطفى الفرا الى آل الطحاوي بالشرقية للتهنئة وقد كنت اود الذهاب معهم لولا انه كان عندي امتحان بالجامعة في تلك الفترة.



حينما تجاوزت الخامسة من العمر ألحقني والدي بالكتّاب الذي كان يملكه الشيخ حسن العقاد خريج الازهر. وكان نظام الكتاتيب منتشرا آنذاك وفي جميع مدن فلسطين وقراها. وكان في خان يونس آنذاك عدد من الكتاتيب الى جانب كتّاب الشيخ حسن منها كتاب الشيخ تيِّم ابو لبن -وقد تتلمذ على يديه المرحوم السيد عبد الرحمن الفرا رئيسالبلدية الاسبق وعميد العائلة- وكتاب الشيخ عبدالوهاب وكان ازهريا مصريا.

في الكتاب يتعلم الصبية القراءة والكتابة ولذلك سمي بالكتاب. وبجانب ذلك كانوا يتعلمون قراءة القران الكريم ويحفظون بعض سوره ويتعلمون العد ومبادئ الحساب. مكثت في الكتاب عاما ثم التحقت بالمدرسة الابتدائية الوحيدة في المدينة واسمها مدرسة ذكور خان يونس الابتدائية وكان موقعها عند بداية شارع البحر الذي كان يمتد من وسط البلد وينتهي عند بداية الكثبان الرملية وتلك كانت الحدود الغربية للمدينة . وهذه الكثبان تفصل المدينة عن البحر لمسافة ثلاثة كيلومترات.



محمد علي الفرا وهو في مرحلة الإبتدائية


كانت المرحلة الابتدائية سبع سنوات تبدأ بالاول ابتدائي وتنتهي بالصف السابع الابتدائي. وكانت حكومة الانتداب البريطاني آنذاك تختار الأول المتخرج من السابع الابتدائي ليكمل تعليمه الثانوي في الكلية العربية في القدس وهي المدرسة الثانوية الحكومية الوحيدة بفلسطين ثم بعد ذلك فتحت المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس ايضا.


حينما انهيت الصف السابع تم اختياري مع عدد من الطلبة المتميزين لأدرس في مدرسة الامام الشافعي-التانوية بمدينة غزة والتي كان فيها صفان ثانويان فقط، ثم وفي أواخر عهد الانتداب اضيف اليها صفان: ثالث ورابع ثانوي فأصبحت مدرسة ثانوية مكتملة وهي المدرسة الثانوية الحكومية الوحيدة في مدينة غزة ولوائها الذي كانت مساحته أكثر من ثلث مساحة فلسطين لانه كان يضم النقب.



كانت مباني مدرسة الامام الشافعي متواضعة للغاية مؤلفة من غرف خشبية واسعة (بركسات) لجنود الجيش البريطاني في أثناء الحرب العالمية الثانية 1939-1945، وكان موقع المدرسة في شرق حي الصبرة والى الغرب من سوق فراس الذي لم يكن موجودا آنذاك.

حينما التحقت بالمدرسة في العام الدراسي 1946-1947 إفتتح قسم داخلي خصص للطلبة القادمين من مدن وقرى لواء غزة وكنت من بينهم وأذكر من زملائي محي الدين عبد المالك الفرا وقاسم صلُّح الاغا وسليمان الاغا.



كان مدير المدرسة الاستاذ ممدوح الخالدي وهو من القدس واتصف بالشدة وقوة الشخصية والاعتداد الشديد بنفسه وكان الجميع يهابونه بمن فيهم المدرسون وعلى علاقة قوية بجميع رجال غزة وشخصياتها البارزة.


القسم الداخلي بمدرسة الإمام الشافعي في غزة عام 1946، وسط جلوسا المدير أ.ممدوح الخالدي وعلى يمينه أ.جرار القدوة وعلى يساره أ.حنفي فرحات ،،وفي أقصى يسار الصورة جلوس صورة البروفيسور محمدعلي -والمشار له بعلامة X-



في العام الدراسي 1948-1949 كنت في الصف الثالث الثانوي و كانت احداث فلسطين على اشدها وحكومة الانتداب البريطاني قررت الانسحاب من قلسطين في 15 مايو 1948 بعد ان مكنت اليهود من امتلاك كل ادوات القوة وسلمت لهم المواقع الحساسة والاستراتيجية بفلسطين.

بدأت الاشتباكات تشتد بين المجاهدين الفلسطينيين والعصابات الصهيونية مثل الهجاناة وشتيرن وشمل القتال جميع انحاء فلسطين وارتكبت العصابات اليهودية الكثير من المذابح مثل مذبحة دير ياسين قرب القدس. وعلى اثرها بدأ المتطوعون يتسللون من البلاد العربية المجاورة متجاوزين المناطق الخاضعة للمراقبة البريطانية. وقد جاء من مصر انذاك فرقة ابو العزائم وهي من الطرق الصوفية وليس لها دراية بالقتال وعسكرت قرب مطار غزة وقد سمح مدير مدرستنا لنا نحن الطلاب لمساعدة المتطوعين بحفر الخنادق والتحصينات.

قبل جلاء بريطانيا عن فلسطين بقليل دخلت من مصر كتائب من الاخوان المسلمين، حيث اتجهت واحدة صوب بئر السبع بقيادة كامل الشريف وأخرى دخلت رفح ومنها الى خان يونس واتخذت من مبنى مدرسة خان يونس الثانوية (القسام حاليا) مقرا وقيادة لها وكان يقودها القائم مقام (العقيد) احمد عبد العزيز وكنت اراه احيانا وهو يخرج في سيارة الجيب فقد كانت قيادته مقابل منزلنا. وكانت آخر مره أراه فيها -قبل استشهاده فيما بعد- حينما خرج سكان خان يونس في جنازة العريف فتحي الخولي الذي كان اول شهيد للاخوان المسلمين في اثناء مهاجمتهم مستعمرة دير البلح.



في بداية عام 1948 ساءت الاوضاع الامنية فعطلت المدارس وعدت الى خان يونس وتسارعت الاحداث وفي الرابع عشر تم جلاء بريطانيا عن فلسطين وفي اليوم التالي دخلت جيوش الدول العربية فلسطين لتحرير المناطق التي استولت عليها العصابات اليهودية. وقد كنت من الذين استقبلوا الجيش المصري في اثناء مروره بمشارف خان يونس. وكان اليهود قد احتفلوا في منتصف ليلة الخامس عشر بقيام اسرائيل.

وبقيام ادارة في المناطق التي سيطر عليها الجيش المصري فتحت المدارس فرفعت الى الصف الرابع ثانوي وهو اخر صف في المرحلة الثانوية حيث يتقدم الطلاب لامتحان المترك الذي بموجبه يلتحقون بالجامعة بينما في مصر يقدمون شهادة الثقافة وفي السنة الخامسة يتقدمون للتوجيهية التي تؤهلهم دخول الجامعة. وبالنظر لمستوانا العلمي وكامتياز لدفعتنا فقد اعفونا من التقدم لامتحان الثقافة وسمح لنا التقدم لامتحان التوجيهية وكان عددنا ست وستون طالبا وقد نجحنا جميعا واجريت لنا احتفالات في مدينتي غزة وخان يونس لاننا كنا اول من حصل على التوجيهي بفلسطين وأول بعثة من الطلبة تلتحق بالجامعات المصرية وقدمت لكل طالب إعانة شهرية قدرها ستة جنيهات مصرية، وكان ذلك مبلغا لا بأس به.

قبل التحاقي بالجامعة وفي العطلة الصيفية التحقت بالعمل كاتبا في معسكر جنيفة وهي قرية  تقع غرب مدينة السويس. وكان الجيش البريطاني يعسكر على طول قناة السويس اي من بورسعيد حتى السويس. وكان الجيش البريطاني يعسكر في القاهرة ايضا وعلى نهر النيل ثم رحل وانضم للقوات في قناة السويس في عام 1946.

التحقت بجامعة "فؤاد الأول" التي اصبح اسمها بعد ثورة 23 يوليو 1952 جامعة القاهرة وكنت ارغب دخول كلية الحقوق ولكن حدث خطأ تسجيليا دفعني لدخول كلية الآداب.

كان عدد طلاب جامعة القاهرة آنذاك ( 1950) خمسة الاف طالب وعدد سكان مصر 19 مليونا. وحتى عام 1949 لم يكن بمصر غير جامعة فؤاد الاول وجامعة فاروق بالإسكندرية والتي تغير اسمها بعد الثورة الى جامعة الاسكندرية. وفي عام 1950 افتتحت جامعة ابراهيم باشا الكبير (جامعة عين شمس حاليا).



محمد علي الفرا عام 1950

 

كان التعليم الجامعي آنذاك لا يحظى به الا أبناء الطبقة المصرية الراقية. واذكر انني حينما اعرف نفسى بأني  طالب في جامعة فؤاد الاول كانو يرحبون بي ويعاملونني باحترام شديد.



من كبار الأساتذة والعلماء الذين تتلمذت على أيديهم آنذاك عميد الادب العربي الدكتور طه حسين والعلامة الدكتور أحمد أمين. وكانت القاهرة تعج بالمفكرين والعلماء والسياسيين. كان هامش الحرية الحرية انذاك وبخاصة في العهد الملكي واسعا بحيث كان كل شخص يعبر عن رأيه.

في عام 1951 تزوج الملك فاروق للمرة الثانية من ناريمان وكان من المدعويين السيد عبد الرحمن الفرا عميد العائلة ورئيس بلدية خانيونس آنذاك. وأقام الجيش المصري إحتفالا كبيرا حضره من العائلة كل من قادة العائلة آنذاك: المختار مصطفى حسن الفرا وعادل إبراهيم الفرا رئيس الغرفة التجارية بخان يونس وقاسم حسين الفرا أمين عام بلدية خان يونس.

في صيف عام 1954 تخرجت من كلية الاداب وحصلت على الليسانس في الجغرافية، وعينت مدرسا للمواد الاجتماعية بمدرسة خانيونس الثانوية وكان مديرها أستاذي السابق الاستاذ سامي ابو شعبان. وكانت المدرسة تضم المرحلة الاعدادية ومدتها اربع سنوات والمرحلة الثانوية ومدتها ثلاث سنوات وكان من طلاب الاعدادية من عائلة الفرا كل من أخي عبدالله وفاروق حمدي الفرا ومنار قاسم الفرا وكان في المرحلة الثانوية التي أقوم بالتدريس فيها كل من حافظ عبدالرحمن الفرا ومحمود مصطفى الفرا وعبد الحي هاشم الفرا وأحمد صالح الفرا وأحمد عثماان الفرا ( ابو عسل ). ومن الطلاب الذين درستهم : نظام سعيد الاغا ومصطفى العقاد وعبد الحي الفرا واحمد صالح الفرا واحمد عثان الفرا .

كانت مادة المجتمع الفلسطيني من المواد التي تدرس فى الأول ثانوي. ونظرا لعدم وجود كتاب مقرر فقد كان المدرسون في القطاع يدرسون الطلبة كتاب المجتمع المصري وقد رفضت هذا وقمت على الفور بتأليف كتاب المجتمع الفلسطيني في بحر اسبوعين وتولى الناشر آنذاك طبعه في القاهرة. وقد أحدث الكتاب ما يشبه الهزة، وفرح به المدير سامي ابو شعبان وأخذني معه مفتخرا لمقابلة الحاكم العام للقطاع آنذاك اللواء عبدالله رفعت وكان ذلك في بداية العام الدراسي 1954 وقد سر الحاكم العام كثيرا وبخاصة حينما قال له الاستاذ سامي بأنني من باكورة خريجي القطاع الذين رعتهم مصر. وكان هذا اول كتاب اقوم بتأليفه، وانتشر الكتاب وصار يدرس في جميع مدارس القطاع.



مكثت ادرس في مدرسة خان يونس الثانوية سنتين دراسيتين من سبتمبر 1954 وحتى يونيو 1956 حيث وقعت بعدها عقدا مع البعثة السعودية التعليمية، التي قدمت الى غزة، للعمل في مدارس المملكة العربية السعودية رغم نصيحة مدير المدرسة الاستاذ سامي ابو شعبان والاهل والاصدقاء بعدم مغادرة القطاع والعمل في السعودية نظرا لوضعي المميز في القطاع فقد كنت أدعى لإلقاء المحاضرات العلمية والثقافية في جميع انحاء القطاع حتى اصبحت معروفا ولا تأتي مناسبة وطنية او غير وطنية الا وأدعى لها وأساهم فيها. وعلى مستوى العائلة فقد كنت دائما، ورغم صغر سني نسبيا، مع وفد العائلة الذي يذهب في الأعياد والمناسبات للسلام على الحاكم العام بغزة وزيارة العائلات والشخصيات في مدينتي غزة وخانيونس وبلدات وقرى القطاع. وكان الوفد يضم آنذاك عميد العائلة السيد عبدالرحمن الفرا والمختار السيد مصطفى الفرا والوجيه  السيد عادل الفرا وأمين عام البلدية السيد قاسم الفرا ومدير مدرسة احمد عبد العزيز الاستاذ حمزة حسين الفرا. علاوة على دخلي كان ممتازا فقد كنت أحصل على دخول أخرى غير راتبي من العمل بالمدرسة حيث كنت أعطي دروسا في المساء لمعلمات وكالة غوث اللاجئين لمن لم يكن حاصلات على الشهادة التوجيهية.



قبل مغادرة القطاع عقدت في 3/8/1956 عقد قراني على الآنسة عصمت السراج وكان والدها الرائد يوسف السراج مساعدا للحاكم في غزة ومديرا لمدرسة الشرطة، وكانت هي مديرة مدرسة بنات البريج الاعدادية وتدرس بالانتساب بقسم الاجتماع بجامعة القاهرة. وكنت أدرسها مادة الفلسفة لاني كنت المدرس الفلسطيني الوحيد في القطاع الذي يدرس هذه المادة والتي لم تكن تدرس في المنهاج الفلسطيني في عهد الانتداب البريطاني.


-------------
إلى هنا تنتهي الحلقة الأولى، في الحلقة الثانية سنكمل الحديث عن إنطلاقة البروفيسور إلى الغربة بدءا من السعودية ومن ثم إلى الكويت، وما صاحب ذلك من قصص مثيرة ومهمة.
 

 

عدد الزوار 99258، أضيف بواسطة/ إدارة موقع الفرا