...

عبد الرحمن الفرا ..أبو أسعد

من رجال خانيونس العظماء


لقد كان من الرعيل الأول من الثوار الفلسطينيين الذين اشتركوا في ثورات فلسطين وانتفاضاتها منذ أن ابتليت بالاستعمار البريطاني الذي مهد لاحتلال صهيوني كان يؤمن بأهمية العمل الجماعي في مقاومة الاستعمار والصهيونية ولذلك ركز همه على توحيد الصفوف وتكثيف الجهود واستغلال الطاقات. خاض انتخابات رئاسة المجلس البلدي في خان يونس عام 1936م ففاز بجدارة واسترجع المقعد الذي كان يحتله الحاج/إبراهيم الفرا مؤسس بلدية خان يونس عام 1918م وأصبحت بموجبه رتبة خان يونس مدينة بعد أن كانت في العهد العثماني قصبة ومركزا لناحية يديرها مدير يعينه القائم مقام العثماني لمدينة غزة.

التفاصيل

أحب مدينته فخلدته

عبد الرحمن الفرا  .  .  من رجال فلسطين العظماء

1887م-1969م

المصدر: الدكتور/محمد علي الفرا نائب عميد الجامعة الأهلية-عمان مقاله الذي تم نشره في جريدة الحياة الجديدة-فلسطين الصفحة رقم (7) يوم: الأحد 1/12/1996م.

في كل مجتمع رجال صنعوا تاريخه وفي كل شعب قادة بعثوا أمجاده ومجاهدون بذلوا من أجل وطنهم كل غالٍ ورخيص فسجلوا أعمالهم

المرحوم/عبد الرحمن محمد الفرا

النيشان الذي على صدره قلدته إياه الحكومة المصرية تكريماً لما قدمه للجيش المصري سنة 1948م

 وبطولاتهم في صفحات التاريخ المجيد وظلت ذكراهم حية وخالدة في الأجيال من بعدهم  .  .  لقد كان المرحوم/عبد الرحمن محمد الفرا من هذه الفئة القليلة من الرجال الذين تجمعت في شخصيتهم الكثير من الخصال الحميدة والمزايا النبيلة  .  .  كان عصامي النشأة ، فقد والده وهو صغير فذاق مرارة اليتيم ، ولكنه واجهه بكبرياء وتحدٍ وعناد وإصرار  .  .  فإذا به يصبح رجلاً قبل أن يبلغ مبلغ الرجال  .  .  دخل معترك الحياة مبكراً ، فصقلته الأحداث ، وشكلته الأيام بقسوتها وخشونتها وبدأت تظهر فيه ملامح القيادة والزعامة فتقدم الصفوف لا يبالي صغر سنه واكتشف كبار رجال عائلته فيه هذه المزايا والخصال فأخذوا بيده ، وراهنوا عليه واتقدوا أنه خير من يسلمون زمام العائلة بعد رحيلهم عن الحياة ليكمل المسيرة ويعلي من البناء ويخدم البلد.

لقد كان من الرعيل الأول من الثوار الفلسطينيين الذين اشتركوا في ثورات فلسطين وانتفاضاتها منذ أن ابتليت بالاستعمار البريطاني الذي مهد لاحتلال صهيوني كان يؤمن بأهمية العمل الجماعي في مقاومة الاستعمار والصهيونية ولذلك ركز همه على توحيد الصفوف وتكثيف الجهود واستغلال الطاقات فشكل جمعية إسلامية في مدينة خان يونس مسقط رأسه وبدأ بالاتصال بالجمعيات والأحزاب الفلسطينية آنذاك لتنسيق العمل الوطني وكان يحرص على حضور الاجتماعات واللقاءات التي نظمها قادة فلسطين وزعماؤها للاتفاق على خطة يواجهون بها الخطر المحدق بالوطن وفي كل اجتماع أو لقاء كان له حضور بارز ورأي مسموع.

خاض انتخابات رئاسة المجلس البلدي في خان يونس عام 1936م ففاز بجدارة واسترجع المقعد الذي كان يحتله الحاج/إبراهيم الفرا مؤسس بلدية خان يونس عام 1918م وأصبحت بموجبه رتبة خان يونس مدينة بعد أن كانت في العهد العثماني قصبة ومركزا لناحية يديرها مدير يعينه القائم مقام العثماني لمدينة غزة.

كان استلامه لمنصب رئاسة المجلس البلدي حدثاً بارزاً وثورة على الأوضاع الجامدة في مدينته فنشط في إعادة تنظيم المدينة بشق الطرق الفسيحة وتنظيم الأحياء واستعان بالمهندسين في وضع الأسس المعمارية الصحيحة وألزم المواطنين التقيد بها وإيماناً منه بأهمية التعليم ومكافحة الأمية ومحاربتها بدأ بنفسه فوجد أن التعليم البسيط الذي حصل عليه عن طريق الكتاتيب التي كانت الوسيلة الوحيدة للتعليم في بلده آنذاك لا يكفي لمواجهة متطلبات المرحلة الصعبة التي يواجهها مجتمعه ، آمن أن العلم هو السلاح القوي الذي به يمكن مواجهة الهجمة الصهيونية على وطنه واعتقد أن المرأة يجب أن تنال نصيبها من التعليم فإن عليها هي الأخرى واجبات ومسئوليات نحو بلدها ووطنها ، وإيماناً منه بذلك خصص جزءاً من ميزانية البلدية لدعم المدارس وافتتاح مدرسة للإناث وحث السكان ودفعهم لإدخال بناتهم في وقت كان فيه الكثيرون يخشون من تعليم بناتهم ويعتبرون ذلك خروجاً عن الأعراف والتقاليد وأن تعليم البنت يفسدها ويبدل من سلوكها ويوجه انتباهها إلى أمور ليست من صالحها ولا من صالح مجتمعها وحتى يحذو الناس حذوه كان أول من أدخل بنته الكبرى مدرسة إناث.

كانت حكومة الانتداب البريطانية في فلسطين لا تنفق على التعليم ما يستحق الذكر فهي تحرص على إبقاء الجهل سائداً فلم يكن في

 فلسطين آنذاك مدرسة ثانوية حكومية مكتملة إلا واحدة في القدس اسمها " الكلية العربية" ولم يكن في مركز ألوية فلسطين الستة إلا مدسة ثانوية واحدة في كل مدرسة لواء تنتهي في الصف الثاني الثانوي ومقابل هذا التقتير في التعليم كانت حكومة الانتداب تنفق بسخاء وكرم لا مثيل لهما ومن الضرائب التي تجمعها من الشعب الفلسطيني على الشرطة والأمن والسجون والمعتقلات التي امتلأت بالثوار والمجاهدين الفلسطينيين والذي كان "عبد الرحمن الفرا" واحداً منهم.

لم يرض عبد الرحمن الفرا على هذا الوضع المعكوس فقام بإنشاء لجنة المعارف المحلية في مدينته وأجبر الأهالي على دفع ضريبة التعليم ضمن الضرائب التي كانت تجبيها البلدية لقاء الخدمات التي تقدمها للأهالي وبهذه الطريقة جمعت البلدية مبلغاً من المال اشترى به قطعة من أرض آل العقاد شمال المدينة وبنى أول مدرسة ابتدائية ثانوية للبنين لتحل محل المدرسة الابتدائية القديمة التي لم تعد تفي بمتطلبات المرحلة الجديدة وحرص على أن يكون مبنى المدرسة من الحجر الجيري الأبيض الناصع فكانت أجمل مدرسة في لواء غزة آنذاك في وقت كان فيه مبنى مدرسة الإمام الشافعي الثانوية وهي المدرسة الوحيدة في اللواء مؤلف من بركسات خشبية قميئة المظهر وهي من مخلفات الجيش البريطاني.

لم يكتف عبد الرحمن الفرا بهذا الإنجاز بل كان يحث الناس على إرسال أولادهم إلى مواصلة التعليم في الجامعات في الخارج.

وفي عهده لم يكن في خان يونس سوى عيادة طبية يشرف عليها ممرض وقابلة قانونية ويزورها طبيب يأتي من غزة مرتين في الأسبوع فلم يعجبه هذا الوضع بعد أن كثرت حالات الوفاة بسبب تدهور الأحوال الصحية واختفاء المرافق والخدمات الصحية فأقنع المسئولين بتزويد العيادة بالمستلزمات الطبية وضرورة وجود طبيب مقيم لخدمة المدينة وقراها وشجع الأطباء في غزة على فتح عيادات لهم وظل يواصل مسعاه حتى نجح في إقناع السلطات ببناء مستشفى ناصر بخان يونس ليخدم المدينة والمنطقة الجنوبية في القطاع.

لاحظ بعد استلامه لرئاسة البلدية عدم وجود إنارة للشوارع والميادين العامة في مدينته فبمجرد أن يرخي الليل أستاره تصبح خان يونس في ظلام دامس فاعتبر ذلك مظهراً من مظاهر التخلف فأمر بإنارة الشوارع والأزقة والحواري بالفوانيس البترولية بينما أنار الساحات العامة والميادين الرئيسية بالمصابيح الكبيرة "كلوبات" معلقة على سوار عالية ثم أخذ يسعى بكل طاقته حتى نجح في شراء مولدات الطاقة الكهربائية تعمل بالوقود والبترول وبذلك دخلت المدينة عصر الكهرباء في عهده في مجالات أخرى عديدة وأنشأ المساجد وآبار المياه وشبكات تغذية المساكن بالمياه.

وعلى الرغم من كثرة أعماله ومسؤولياته في خدمة مدينته ومواطنيه إلا أن ذلك لم يشغله عن العمل الوطني على المستوى القطري فكان يجوب البلاد العربية لشراء السلاح للمجاهدين وكان كلما حل المساء ارتدى الملابس العربية وغطى وجهه بالكوفية البيضاء المنقطة باللون الأسود "شعار ثوار فلسطين" وأخذ بندقيته ليقود ويحارب مع الثوار ويتصدى للمصفحات البريطانية والقوافل اليهودية ونسف السكك الحديدية ولا يعود إلى بيته إلا عند الفجر ويصلي ويستريح قليلاً ويتناول فطوره ثم يتوجه إلى عمله وكأن شيئاً لم يكن وظل على هذا الحال حتى وشى به الوشاة فألقي القبض عليه هو وابن عمه مصطفى حسن الفرا "المختار" ونفي الاثنان إلى سمخ وهي منطقة شديدة الحرارة والرطوبة يكثر فيها البعوض وتنتشر فيها الأمراض.

وفي عام 1946م خاض آخر انتخابات للبلدية أجرتها حكومة الانتداب البريطاني لمدن فلسطين قبل رحيلها في الخامس من أيار عام 1948م وفي هذه الانتخابات نجح عبد الرحمن الفرا بتفوق بمقعد رئاسة المجلس البلدي والذي ظل فيه حتى عام 1957م عندما ألغت الحكومة المصرية نظام البلديات والانتخابات وأحلت بدلاً منه نظام الحكم المحلي واستمر مواصلة المسيرة في خدمة مدينته ووطنه فكان من الداعين لمؤتمر رؤساء بلديات فلسطين الذي عقد بمدينة نابلس في الأربعينات من أجل تنظيم العمل الوطني والذي أسفر عن تكوين لجان قومية في كل مدينة لمواجهة الأخطار المحدقة بمدن فلسطين وقراها بعد أن اشتد عود الصهيونية وقويت شوكتها وأسفرت عن طمعها وأظهرت عن أهدافها.

وحينها دعا الحاج/أمين الحسيني زعيم فلسطين وقائدها آنذاك إلى عقد مؤتمر فلسطيني عام في مدينة غزة في الأول من شهر أكتوبر سنة 1948م كان عبد الرحمن الفرا من أبرز الذين اشتركوا في هذا المؤتمر ومن الذين ساهموا في أعماله وقد حضر هذا المؤتمر 85 عضواً وانتهى بإعلان استقلال فلسطين وتشكيل حكومة عموم فلسطين.

ونظراً لتعدد أنشطته ووطنيته وصادق ولائه لأمته اختير عبد الرحمن الفرا  عضواً فاعلاً وعاملاً في الهيئة العربية العليا لفلسطين والتي كان يرأسها القائد الزعيم المجاهد الحاج/أمين الحسيني وهي بمثابة ما يسمى اليوم اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية.

ظل عبد الرحمن الفرا يعمل لوطنه دون كلل أو ملل وبخاصة حينما احتلت إسرائيل ما تبقى من الأرض الفلسطينية بعد حرب يونيو 1967م وفي شهر ديسمبر من عام 1969م لبى عبد الرحمن الفرا نداء ربه انتقل إلى الرفيق الأعلى فنعته الهيئة العربية العليا في العدد 106 من مجلتها الشهرية "فلسطين" والصادرة في يناير/1970م بكلمة جاء فيها: "من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا" صدق الله العظيم.

تنعي الهيئة العربية العليا لفلسطين إلى الشعب العربي لفلسطين عضواً من أعضائها هو المجاهد المرحوم السيد/ عبد الرحمن الفرا الذي وافته المنية في شهر كانون الأول المنصرم في مدينة خان يونس بفلسطين.

والفقيد العزيز رجل بارز من رجال الحركة الوطنية الفلسطينية في مختلف مراحلها وكان عضواً مؤسسا في المجلس الوطني الفلسطيني الذي عقد بمدينة غزة عام 1948م وانتخب رئيساً لبلدية خان يونس لفترة طويلة وكان خلالها مضرب الأمثال في النزاهة والتفاني في خدمة مدينته وشعبه فالتفت حوله قلوب مواطنيه.

وليس أدل على ذلك من أن تشييع جثمانه ورغماً عن الإرهاب الصهيوني قد ضم عشرات الألوف من المشيعين وتحول إلى تظاهرة وطنية كبرى علا فيها الهتاف بسقوط الاحتلال الصهيوني والتعهد على مواصلة الجهاد لتحرير فلسطين وسط التهليل والتكبير وكانت جنازته أول تحد شعبي جماهيري للاحتلال وقواته بمدينة خان يونس عندما امتنع المشيعون عن تسيير الجنازة إلا بعد إرغام قوات الاحتلال على إحضار ابنه مصطفى كامل من سجون الاحتلال ولقد انتصرت الجماهير في هذا التحدي العظيم ورضخت قوات الاحتلال لهذا الطلب.

ونظراً للدور الهام الذي كان يقوم به النظام العائلي في فلسطين وبما أن العائلة كانت محوراً للعمل الوطني وبؤرة للنشاط القومي ومسرحاً تتنافس على خشبته جميع العائلات في تقديم التضحيات للوطن فقد اهتم عبد الرحمن الفرا بعائلات خان يونس التي تتميز بعراقتها وأصالتها العربية وتماسكها وتعاونها لما فيه الخير وحث جميع أفرادها على تعليم أولادهم وبناتهم وكان يؤمن بأهمية دور الشباب في صنع المستقبل ولذلك حرص على عقد لقاءات دورية معهم في الديوان أو في منزله وفي كل لقاء كان ينصحهم ويحسن توجيههم ويأخذ بأيديهم ويمدهم بخبراته في الحياة وكثيراً ما كان يدعوهم في المناسبات والاحتفالات الوطنية ويفخر بتقديمهم لكبار زوار وضيوف المدينة والمسؤولين ويشركهم في المشورة ويدربهم على تحمل المسؤولية.

وبوفاته فقدت عائلة الفرا عميدها وماسك زمامها وخسرت مدينة خان يونس زعيمها واختفى عن المسرح واحد من كبار مجاهدي فلسطين ولكن ظلت آثاره وذكراه خالدة في النفوس وحية في القلوب وستبقى شخصيته مثالاً يحتذى به ليسير الجميع على الدرب الذي شقه وواصل المسيرة حتى لاقى ربه راضياً مرضياً.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين