...

مَرَوَنْجِيّة استيطانية !


أسامة عبدالستار موسى الفرا 


التفاصيل

مَرَوَنْجِيّة - لفظة- لا أدرى فيما إذا كان لها معنىً متعارفاً عليه بين أهل اللغة، وعند الكشف في معاجم العرب في باب مَرَجَ، كانت المعاني الواردة على اختلافها، لا تمتّ لها بأيّة صلة على الإطلاق، التي كانت ترِد دوماً على ألسنة الناس منذ الستينات وعلى معنىً واحدٍ فقط، وهو القهر والغلبة على أيّة جهة.
يُقال (مَرْوَجَ فلان)، أي كانت له الغلبة على الحالين سواء في إقدامه أو في إدباره. وتميّزت هذه اللفظة بأنها تُقال في كل مناسبةٍ يتم فيها الغلب، وخاصةً خلال لعبة شعبية قريبة إلى صورة الشطرنج المعروفة، لشخصين يتنافسان للفوز بالغلب وإظهار الذكاء والقدرة. وهي الآن اندثرت كما غيرها من الكثير من الكلمات التي كانت دارجة في تلك الفترة، ولا أدري فيما إذا كان أحداً لا يزال يذكرها، ولكنها كما يبدو هي نفسها، أو صورة عنها (ثابتة) الآن لدى الإسرائيليين وخاصةً في المجال الاستيطاني.
فبعض النظر عن الحكومة التي تقف على رأس السلطة في إسرائيل، يسارية أو يمينية أو ائتلافية، فإن محياها ومتنفسها هو العمل الاستيطاني، اعتقاداً منها إلى حد الجنون. وبغض النظر أيضاً عن افتتان مجموع الأحزاب القائمة - دينية أو علمانية-، وسواء كانت حاكمة أو في صفوف المعارضة بالأعمال الاستيطانية، وإن كان بنسب متفاوتة، مرتبطة بمستلزمات المرحلة المُعاشة وموقعها في الحياة السياسية، فإن ذلك مرجعه هو إيمان (الكل) بحكاية أرض إسرائيل الكبرى، ومن ناحيةٍ أخرى تُعتبر داعمةً للتعجيل في إرغام العرب والفلسطينيين على الجلوس لإنهاء القضية الفلسطينية، حيث كانوا يشهرون ثلاثة لاءات ضخمات ضد أيّة محاولة إسرائيلية للاعتراف بها والتسليم بادعاءاتها. ويبرز ذلك الافتتان في كل مناسبة وخاصة المناسبات الانتخابية، حيث يتنافس الجميع على تجنيد القضية الاستيطانية كما تروق للناخب الإسرائيلي بإخراجات حزبية خاصة. ونرى ذلك بوضوح في أيديولوجيا الأحزاب كإحدى خصائصها، التي تقوم عليها تماماً كما تعتمد الديانة التوراتية في تشكيلها منذ البداية.
وما الحديث الذي يدور عن تخلي الإسرائيليين عن أجزاء من الأراضي الفلسطينية، هو بمبرر دفع المضار وجلب الأمن والاستقرار، لاستمرار وتطور الدولة اليهودية، ناهيكم عن عدم التسليم بالكامل بتلك الأراضي أو التخلي عنها بشكلٍ نهائي، بمعنى عدم تركها عن النطاقات الجغرافية والأمنية والسياسية الإسرائيلية.
منذ توليد الدولة في العام 1948، كانت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة - كما هي الآن- هي التي تبادر إلى التخطيط لإقامة المشروعات الاستيطانية وتوسيعها. ولم تدخر جهداً في هذا المجال إلاّ وتدحرجت خلاله من دون التفات لأحدٍ كان من شخوص المجتمع الدولي، وإن كانت تلك النشاطات الاستيطانية المتكالبة، تواجه بعض الممانعات الدولية، إلاّ أن الكثير من الدول باتت تسلّم منذ الفترة الأخيرة، بأن هناك وقائع جديدة على الأرض – بما فيها السلطة الفلسطينية-، بل إن الرئيس السابق "جورج بوش" الابن، مخترع (خارطة الطريق) ما فتئ يدعو الفلسطينيين لأخذ الحقائق الديموغرافية الاستيطانية بعين الاعتبار خلال محادثات التسوية.
منذ ظهور المقاومة الفلسطينية وتشكل منظمة التحرير الفلسطينية أوائل ستينات القرن الماضي، كانت ترفض وجود الاحتلال الإسرائيلي وما ينتج عنه من استحلال للأرض والممتلكات، وبناء المستوطنات لتوطين المهاجرين اليهود فيها. وكانت الإشكالية الاستيطانية هي العقبة الكأداء التي تحول دون انتظام سير العملية السياسية منذ اتفاق أوسلو، الذي تم التوقيع عليه بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي في العام 1993. حيث كانت السلطة تشترط وقف كافة النشاطات الاستيطانية في الأراضي الفلسطينية، لمواصلة المسيرة التفاوضية. ولم تلق تلك الدعوات آذاناً صاغية من قِبل الإسرائيليين، ولا مواقف عربية ودولية ذات شأن، بإمكانها تقديم الدعم الكافي ضد المشاريع الاستيطانية اليهودية، سواء عن طريق المقاطعة والمعاقبة، أو عن طريق اتخاذ خطوات ضاغطة باتجاه تنفيذ قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن، كما يتم بالنسبة إلى قضايا الدول الأخرى.
في أواخر نوفمبر/تشرين الثاني 2009، اضطر رئيس الوزراء "بنيامين نتانياهو" إلى قبول مشروط لتجميد النشاطات الاستيطانية لمدة عشرة أشهر في الضفة العربية، بعد قرار صعب للوزاري المصغّر خلال جلسة عقدها في مقر وزارة الجيش المعروفة باسم (هكرياه) في ذلك الوقت. وبالرغم من الإعلان فقد تواصلت النشاطات الصهيونية وكأنها لم تتوقف لحظة، بحجج بناء الكنس والمدارس والمشافي والمؤسسات العامة الضرورية، والتي لا يشملها قرار التجميد، ومن ناحيةٍ أخرى كانت حركات مناهضة دولية وعربية تكشف عن أن التجميد عبارة عن (كذبة كبيرة) كما لم يكن هناك إعلان عن التجميد. وكأن الدقيقة الأخيرة للعشرة شهور هي الفاصلة ليبدأ النشاط الاستيطاني من جديد.
في هذه المرحلة، لم تشأ حكومة "نتانياهو" تكرار عملية التجميد الاستيطاني ولو إلى دقيقة واحدة، حتى أن "نتانياهو" نفسه، فضّل إطلاق أسرى فلسطينيين على تجميد الاستيطان في شأن العودة لطاولة المفاوضات، ليس بسبب النزول عند رغبات الفلسطينيين أو المجتمع الدولي، ولكن لأن اللجوء إلى التكرار، يمكن أن يكون له تداعيات ستؤثر حتماً على الائتلاف الحكومي الآيل في الأصل للانهيار منذ لحظة تشكيله، وخاصةً على أولئك المتشددين الذين يعتقدون بذهاب المكاسب إلى الطرف الفلسطيني وأهمها الاعتراف بعدم شرعية الاستيطان، وبأن المستوطنات السابقة هي غير شرعية أيضاً. كما يعني وقف حيازة الأراضي لصالح المستوطنين في ضوء الخشية من تنامي الضغوطات الدولية وبروز معطيات جديدة، تفرض وقائع محتملة لصالح الفلسطينيين. وفي ذات الوقت تحول دون السيطرة على المزيد من الأرض، إلى جانب عرقلة أيّة مشاريع وتحطيم أحلام تهدف إلى وجود دولة فلسطينية في المستقبل.
في الفترة الأخيرة، لجأت الحكومة الإسرائيلية إلى اتخاذها جملة من التدابير الذكية في هذا الشأن، بسبب أنها تريد المحافظة على الزخم الاستيطاني المتواصل على مدار الساعة، ومن ناحيةٍ أخرى تريد تهدئة المجتمع الدولي والفلسطيني بشكلٍ خاص. وإظهار نفسها بأنها ما فتئت تسير باتجاه الحلول وهي بصدد تقديم تنازلات.
قبل فترة قررت إسرائيل إنشاء مشروع ما يسمى (بالحديقة الوطنية)على سفح جبل المكبر في القدس المحتلة، وكما قيل بفضل حركات سلام، تم الكشف عن الهدف الحقيقي من وراء إنشاء الحديقة، وهو وقف التمدد الأفقي الفلسطيني في المنطقة، الأمر الذي أدّى إلى الاعتراض عليه من قبل المجتمع الدولي، مما اضطر الحكومة إلى إلغاء المشروع، وحين تم امتصاص الاعتراضات بجملتها، تمّت في هذه الأيام العودة مجدداً والشروع فعلاً بباء الحديقة. وكانت نشرت وزارة البناء والتخطيط الإسرائيلية خلال الأسبوعين الفائتين مناقصات لبناء ٢٠ ألف وحدة سكنية إسرائيلية في مناطق الضفة الغربية. وليس من شك في أن هذه المخططات قد نوقشت في مجلس الوزراء الاسرائيلي. وحيث حدثت تلاسنات بين "نتانياهو" والإدارة الأمريكية التي يمثلها وزير الخارجية "جون كيري" تم إيقاف تلك المناقصات، حتى إذا ما أدار "كيري" ظهره قليلاً، تكفّلت دائرة أراضي إسرائيل بتمويل بناء تلك الوحدات وبسرعةٍ أكبر.
مما سبق يتضح جلياً، من أن الجانب الإسرائيلي، هو موجود، وعلى استعداد للمقاتلة من أجل مواصلة الاستيطان وعدم وقفه مهما حصل من أمر، وحتى في حال ورود شائعات متعلقة بالتجميد كما حصل وقيل بأن هناك تفاهمات خفيّة سبقت العودة للمفاوضات، فإن إسرائيل ستطل قائمة على مواصلة مشروعاتها الاستيطانية وسواء تم الإعلان عن توقّفها أو لم يتم. وربما أن القيادة الفلسطينية قد تفهمت ذلك مبكراً، ورأت غض الطرف عن المطالبة بوقف النشاطات الاستيطانية كشرط رئيسي مقابل العودة لاستئناف مفاوضات السلام، لأنها باتت مقتنعةً بفشل جدواه لدى الإسرائيليين عموماً، وبأن عليها تناول أحد خياراتها في هذا الشأن، وهو قبول العودة إلى المفاوضات المباشرة.
خانيونس/فلسطين