...

" داعش " أبعد من ان يكون مجرد تنظيم إرهابي


أسامة عبدالستار موسى الفرا 


التفاصيل

في عالم السياسية، ليس هنالك مجال لمحض الصدفة، كل ما يحدث يتبلور نتيجة تشابك عناصر محددة تفرز إرهاصاتها بشكل ما وفي لحظة معينة، هذه العناصر تتراكم يوماً بعد يوماً لتبدو جليه وفاعلة في الوقت المناسب، ألا يكون لمحض الصدفة مجال، يعني أن كل ما يحدث هو انعكاس لأمور تتطور تدريجياً، أحياناً بشكل باطني وأحياناٌ بشكل ظاهري.
كل شيء يبدو جلياً فقط حين تسنح الظروف، حينها تأخذ الأمور مجراها وتفرض وجودها على أرض الواقع، و»داعش»، كتنظيم وفكرة، ليس بعيدا عن هذا المنطق. كظاهرة سطعت فجأة، تنظيم «داعش»، مثله مثل غيره من التنظيمات التي ظهرت لتمارس العمل السياسي- الديني، هو إفراز لما آلت له أحوال الأمة من تراكمات سلبية خلال الحقب الأخيرة. مجرد تحليل بسيط لهذا التنظيم يظهر مدى التشابه بينه، كتنظيم عنيف، والوضع العربي المرعب الناجم عن تزايد وتيرة الصراعات وغياب الحلول الناجعة لمختلف المشاكل التي تواجهها كل دولة على حدة. بكلمات أخرى، «داعش»، بمظهره الفوضوي واساليبه المقززة، هو انعكاس لمجتمع عربي مصاب بمختلف الأمراض المزمنة.
لقد وصل الوضع العربي إلى درجة من التدهور لا تطاق، لذلك انفجرت الثورات كتعبير عن حالة الغضب، التشنج والظلم المتمادي على مختلف المستويات… بدون شك، كل ما حصل ويمكن أن يحصل في المستقبل مرتبط بسلوكيات القيادات السياسية، العسكرية، الدينية، الاقتصادية والاجتماعية التي تهيمن بطريقة ظلامية، فئوية وتسلطية على المجتمعات العربية وخيراتها. المرجعية الاساسية لهذه السلوكيات هي الإنانية المطلقة، قصر النظر وعدم قدرة هذه القيادات على تقديم استراتيجية تطور متكاملة للإنسان العربي. إذا سلمنا بفكرة أن تنظيم «داعش» هو انعكاس حقيقي للوضع المتأزم، فيمكن القول كذلك بأنه سلك السلوك نفسه الذي سلكته كافة التنظيمات التى تأسست على امتداد عالمنا العربي. فقد انبثق هذا التنظيم عن التنظيم الأم، «القاعدة»، بعد أن بدا لبعض أعضائه أن هذا لا يفي بالمسلمات والمعتقدات الدينية والسياسية المنزلة، بل هناك من ذهب أبعد من ذلك وقام على هذا الاساس بتكفير قياداته السابقة واعتبرها ضالة. طبعاً مثل هذا القول هو تمهيد لتشريع إقامة الحد والفتك بكل من لا يعمل حسب مقولة «الحاكمية لله». إن تلفظ مثل هذا القول من ليسوا هم أهلاً له، فخير جواب هو قول سيدنا علي «رضي الله عنه»:كلمة حق يراد بها باطل.
الانشقاق التنظيمي والفكري ليس بالشيء الغريب على ثقافتنا السياسية -الدينية، فقد حصل في وقته مع حركة الأخوان المسلمين، عندما خرج البعض من أعضائها عن التنظيم العام وقاموا بتأسيس التنظيمات الجهادية الأكثر تعصباً (التكفير والهجرة) تحت ذريعـــة أن قيادات الإخوان لا يحكمون بما أنزل الله. طبعاً، لما لا يزايد أمثال هؤلاء على غيرهم وهنالك من زايد في الإيمان على رسولنا الكريم، وعلى أبي بكر، عمر، عثمان وعلي. كيف لا يحدث هذا في وقتنا الحاضر وبين بشر لا يفقهون في الدين جزءا مما يفقه السلف الصالح.
الأمر نفسه حدث في الحركات الثورية، في الثورة الجزائرية سابقاً وفي حركة النضال الوطني الفلسطيني لاحقاً. ففتح انشقت عن منظمة التحرير (الشقيري) ثم انشقت عن فتح الجبهة الشعبية، وعن هذه الجبهة الديمقراطية، وعن جميع هؤلاء انشقت ما عرفت بحركة أبو نضال، التي خونت من سبقها واعتبرت نفسها خير تجسيد للنضال الوطني الفلسطيني. ولكي تثبت حقيقة ذلك، لجأت هذه الحركة إلى العنف المفرط ضد الجميع، بهدف فرض وجودها، إظهار أنها الأكثر ثورية والتأكيد على أن ما عداها ليس سوى حفنة من الخونه والعملاء.
كل ما تحدثه «داعش» من أمر ليس ناتجا عن فكر داعشي محض، فمثلاً فكرة تكوين دولة إسلامية ليس جديدا على هذه الأمة، فكل قائد يتمنى أن يجمع شملها تحت كلمته أو بحد سيفه، بل يسميه «داعش» لنفسه بالدولة الإسلامية، هو انعكاس حقيقي لأماني كثير من أبناء هذه الأمة في وضع قواعد هذه الدولة الغائبة. دولة تجمع الجميع، دولة قادرة على التصدي للشرق والغرب معاً. دولة قادرة على أن تحتل مكانتها بين الدول الكبرى والصغرى. القضية هنا قضية كيف يتم وعلى أي اسس تعمل هذه الدولة. هنا يكمن سر كثير من الصراعات الدائرة بين مختلف التيارات الموجودة على طول وعرض الساحة العربية والإسلامية. وما «داعش» العابر للحدود سوى أحد مجاز تعبير، ناهيك عن إمكانية كونه أداة في يد من يتمنى تأسيس مثل هذه الدولة، دولة الخلافة.
الأمور تتأزم وتصل المأساة حدتها حين تتنافر المصالح والأهداف وتتفاقم بسببها النزاعات. وهذا هو الحاصل حالياً في عالمنا العربي، التي كشفت عن حقيقته الأزمة السورية والعراقية. في كلا الحالتين، كل طرف في النزاع له مواقفه ومصالحه ويحاول فرضها بشكل أو بآخر.
أمام هذه الواقع، ليس من المستغرب أن يشكل كل طرف تنظيما داعشيا خاصا به، يعمل لحسابه وتحت رايته السوداء. مثل ذلك حدث في الماضي مع منظمة أبو نضال. فكثير من دول المنطقة والعالم أسست «فرع أبو نضال المحلي» وقامت بعمليات إرهابية تحت راية الفرع المركزي. ذلك ما أظهره الصحافي الإنكليزي باتريك سيل في كتابة المشهور «أبو نضال، بنديقة للإيجار».
فعلاً الزمن يعيد نفسه، فحالياً كثير من الدول المتنازعة إقليماً ودولياً تقوم، من خلال أجهزتها الإستخبارتية، بعلميات داعشية لتصفية حساباتها الخاصة. هذه الطريقة أفضل بكثير من المواجهات المباشرة ذات التكلفه الباهظة. حروب بالوكالة ذريعتها وتسميتها إرهاب «داعش». يجب أن نتذكر بأن عالمنا اليوم عالم يحكمة شكلياً القانون، لذا على الدول، خاصة الصغرى، إظهار نوع من الالتزام حتى لا تتهم برعاية للإرهاب.
لو أن لـ»داعش» فعلاً ناطق رسمي، مثل هؤلاء الذين يظهرون يوميا على شاشات التلفاز، لصرح بلسان قياداته، مثل ما كان يصرح أبو نضال في حينه، بأنه وتنظيمه ليس على علم أو علاقة بغالبية ما يحدث هنا وهناك من أعمال إرهابية. فعلاً المتابع للأحداث المتتالية، وتناقضتها الهائلة، والاتهامات المتبادلة بين هذا وذلك، تدل على أن «داعش» ليس اسم مفعول وليس دوماً اسم فاعل. اسم يطلق ويحرك حين الضرورة، أي تحليل مبسط لأي تنظيم، اسلوب عمله، اسلحته، يساهم في معرفة إذا كان تنظيماً أقرب للخيال من الواقع، أم أنه مجرد دول تعمل تحت اسمه.
معظم الدول الداعشية، وتحديدا أجهزتها السرية، على علم بحقيقة ما يجري. لذا يجب ألا يصدق أحد بكل ما يقال، وإنها تعمل جاهدة على القضاء عليه وعلى أفكاره. تصرح بمثل ذلك لكي تخفي حقيقة بديهية، بأنها تحارب بعضها بعضا بسبب مصالح وأفكار أكبر من «داعش» وامثاله. في حال توصلت هذه الدول إلى حلول في ما بينها، فلن يكون لوجود «داعش» أي مبرر، إنه النفاق السياسي في أسمى معانيه. نفاق من المؤكد أن كثيرا من أعضاء «داعش» مبهورون به، مثل ما ينبهر الشيطان حين يلاحظ أن هنالك من هو أكثر منه مقدرة على اغواء البشر.