...

درس غزة والقيادات التائهة


أسامة عبدالستار موسى الفرا 


التفاصيل

درس غزة والقيادات التائهة



بقلم: أحمد الفرا
كاتب ودبلوماسي فلسطيني
الكاتب سفير دولة فلسطين السابق لدى ماليزيا
مستشار في معهد ماليزيا للدراسات الإستراتيجية والدولية

انشغلت الحكومات العربية والقيادات الفلسطينية المتعاقبة منذ أكثر من نصف قرن من الزمان في محاولات إيجاد حل عادل للصراع العربي ـ الإسرائيلي. ولكن هذه الجهود والكثير منها جهود وطنية صادقة تاهت في بوتقة صغيرة من التفاصيل.

أذكر حادثة علي سبيل المثال وليس الحصر، بأنه في إحدي مؤتمرات قمم منظمة المؤتمر الإسلامي كادت القمة أن تنفرط نتيجة إصرار أحد الوفود العربية علي ذكر منظمة التحرير الفلسطينية وحذف كلمة بقيادة الرئيس ياسر عرفات واستبدالها بكلمة ورئيسها ياسر عرفات. وعندما أبلغت الأخ أبو عمار بما آلت اليه الأمور، قال رحمه الله: إحذف جملة ياسرعرفات بكاملها وابقوا علي منظمة التحرير وانقذوا القمة... والأمثلة كثيرة وعديدة تستعصي علي الحصر.
أما العقلية الإسرائيلية فلم تنشغل فقط بالعموميات بل بالمُبهم منها، فمنذ وعد بلفور الي اجتماع أنابوليس ركزت العقلية الصهيونية علي استراتيجيتها العامة، فمن اسرائيل الكبري الي إسرائيل اليهودية وبدون تعريف للحدود أو المبادئ وأفردت للعقل العربي تفاصيل عنكبوتية لا تنوي من ورائها إلا استنزاف الوقت وإشغال العرب بشكل عام والفلسطينيين علي وجه الخصوص في فتات لا يُسمن ولا يُغني من جوع فنتمزق ونختلف علي التفاصيل، وفي المحصلة النهائية تُوجه لنا أصابع الإتهام بأننا أضعنا فرص السلام التي لن تتكرر، وتلعب اسرائيل علي وتيرة الحمل الوديع بين الذئاب الضارية.

وإنصافا ً للحقيقة لم ننجح في كسر تلك القاعدة إلا بعد الانتفاضة التي أظهرت جبروت الإحتلال وآلته العسكرية في مقابل أطفال الحجارة، فتعاطفت الغالبية العظمي من دول العالم معنا وكادت أن تنعزل إسرائيل لولا حماية الفيتو الأمريكي.

فهل آن الأوان لكي نتعلم الدرس؟


إن قدر أبناء قطاع غزة هو الصمود الأسطوري بين فكي المتسلقين في فتح وحركة حماس من جهة، ومخالب قبضة الإحتلال من جهة أخري. وما زال المليون ونصف المليون فلسطيني في القطاع الصامد مغلوبين علي أمرهم إزاء الخلاف المقيت بين فتح وحماس، وحيث عزت عندهم ضريبة المال وأُحكم ألإقفال علي شتي مواردهم إلا أنهم يجودون بضريبة الدم وما زالت أوردتهم تنزف بغزارة في انتظار صلاح الدين لكي يضمد جراحهم ويخلصهم مما هم فيه.

الرئيس أبو مازن وضع شروطه الأربعة لتضميد الجراح، وحماس رفضتها وأعلنت شعار الموت علي عتبات السلطة. وبين هذا وذاك مزيد من الجوع والمرض ونزف الدم في غزة هاشم، مما أفضي الي اجتياز الحدود مع مصر بحثا ً عن سد الرمق الذي تعاملت معه الشقيقة الكبري مصر بكل الوعي والمسؤولية.

من أوصل هذا الشعب المناضل الي صورة غزاة القرون الوسطي بحثا ً عن العشب والماء؟
 
أنا لا ألقي باللائمة علي من اخترق الحدود وعاد بحفنة من طحين أو جرعة من دواء، ولكن المأساة الحقيقية تكمن في من دفع بذلك المناضل الذي كان يحلق كالنسر بجناحي كلاشنكوف ينقض من جبل إلي جبل في بقاع أرض فتح وفي جنوب لبنان الصمود وفي أغوار وأنجاد أردن الثورة وفي سهول ووهاد الهامة في سورية العطاء، ومن دفع باولئك الأشبال والزهرات الذين واجهوا عسكر ودبابات الإحتلال بصدور ملؤها الإيمان وسواعد فتية يزينها الحجر، ومن دفع بذلك الكهل وتلك العجوز الي هذا التردي، ولم يقدّر ما بلغوه من عمر الفداء والعطاء، ولما قصُر بهم الحال جادوا بفلذة أكبادهم فداء لفلسطين العزة والكرامة والإباء!؟ ألا تخجلون ياقادة. .! أصرخ فيكم باسم الرضيع وباسم الشهيد، يا فرسان آخر زمن، تحافظون علي الطرف وتبترون الجسد. .! تتشدقون بالدستور والديمقراطية وتضحون بالشعب والقضية..! هل رأيتم يا جهلة التاريخ من يحافظ علي الدستور ويضحي بالوطن ويختال منتصراَ؟ تبا ً لكم. أما آن الأوان لكي نسمي المسميات بأسمائها وننادي الضمائر التي طال سباتها!؟

دعوني أتوقف عند المحرقة والمجزرة التي راح ضحيتها مئات من الشهداء والجرحي، وإذ انحني إكبارا ًوإجلالا للدماء الزكية والسواعد المقاتلة الفتية التي تصدت لبربرية الآلة العسكرية الصهيونية، إلا أن الواجب الوطني يُملي إرادته بعيدا عن المهاترات والعواطف والمزايدات فنقرأ قراءة متأنية.

شاهدنا علي شاشات التلفزة وعلي كل أجهزة الإعلام المسموعة والمرئية ما تعودنا عليه دائما من شجب وإدانة واحتجاجات، تراوحت حدتها القصوي بين مظاهرات وبيانات. لا بأس في ذلك بل هو من الضروريات الحتمية لاستنهاض الهمم وشحذ الطاقات. ولكن دعونا نقرأ واقعنا الفلسطيني.

فنجد حركة حماس أسيرة لأكثر من قيادة : قيادة عسكرية فئوية منفلتة من عقالها وصل بها الحد الي التسلط علي الشعب ومقدّراته، فداست كل القيم والمباديء وانتهكت الحرمات. وقيادة عسكرية يحكمها قرار سياسي خارج الوطن فضلّت الطريق ولجأت الي برج عاجي بعيد عن الواقع. وقيادة سياسية داخلية تستجدي التهدئة بألوان ومبررات متعددة، فلم تعد تقف علي أرض صلبة. وقيادة سياسية خارجية قرارها محكوم بظروف وجودها فلم تعد قادرة علي تلبية مطالب الجماهير.
أما حركة فتح أقل ما يقال فيها أنها تعيش في الزمن الرديء في ظل تداعيات أوسلو والإملاءات الأمريكية والإسرائيلية التي كبلت قيادتها فأضحت أسيرة لمجلدات من الإتفاقات الوهمية التي أوصلت كوادر الحركة الي مزيد من التناحر والتنافس علي سلطات مزعومة لا وجود فعليا لها علي الأرض، بل ينسف هذه السلطات المزعومة جندي إسرائيلي مراهق في أي وقت ولأي سبب.

وما دام حالنا كذلك فلا استغراب ولا استهجان أن نسمع بعد كل مجزرة أننا دحرنا أسرائيل وهي تجرجر أذيال الخزي والعار وأننا حققنا النصر المبين ولا نخجل أن نتهم بعضنا بالتواطؤ والعمالة، والشعب مغلوب علي أمره وجراحه تنزف بين سنديان الإحتلال ومطرقة ذوي القربي.
وهنا تحضرني خاطرة أعتقد بجدواها إذا خلصت النوايا أود أن أُذكّر بها الرئيس أبو مازن لعل فيها وصفة تيسر التوصل إلي تفاهم مقبول يحقن الدم وينهي الفرقة ويفوّت الفرصة علي أمراء الحرب وهي :
ذكر السيد كلايتون سويشر في كتابه حقيقة كامب دفيد ـ القصة التي لم تنشر حول انهيار عملية السلام في الشرق الأوسط بأن قضية القدس كانت هي العقبة الأساسية بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي وبعد عدة مساجلات بين الطرفين وتدخلات الرئيس الأمريكي بيل كلنتون وأفراد إدارته تعقد الوضع ووصل إلي طريق مسدود يهدد بانهيار المفاوضات. ويذكُر السيد سويشر مدي حرص الوفد الفلسطيني علي انجاح المفاوضات وإنقاذ المؤتمر، فجاء في الصفحة 370 ما نصه: أحضر السيد ياسر عرفات معه إلي نيويورك فكرة لحل قضية القدس بأن يُعهد بالسيادة علي الحرم الشريف/الهيكل الي منظمة المؤتمر الإسلامي برئاسة ملك المغرب الذي تربطه علاقات جيدة مع تل أبيب. الفكرة كانت من أجل ضمان حرية العبادة في الأماكن المقدسة لجميع الأديان. رفض الفريقان الأمريكي والإسرائيلي فكرة مشاركة منظمة المؤتمر الإسلامي التي تضم بعض الدول التي وصمتها الولايات المتحدة الأمريكية برعاية الإرهاب مثل سورية وإيران والعراق وليبيا .

وهنا أعتقد بأن مثل هذه الأفكار الآن ربما تشكل مخرجا للوضع في غزة، فتولي قوات عسكرية تابعة لمنظمة المؤتمر الإسلامي المسؤولية الأمنية مؤقتا ًفي غزة من المفروض ألا تعارضه أمريكا وإسرائيل، لان غزة ليست القدس وإن بعض تلك الدول وقعت اتفاقات سلام مع إسرائيل وبعضها يقيم معها علاقات دبلوماسية. أما الدول المتهمة برعاية الإرهاب فتربطها بحماس علاقات وطيدة وبالتالي لن تتجرأ حماس علي معارضة دخول تلك القوات التي سيُعهد اليها مهمة حفظ الأمن والنظام الذي سيفضي الي رفع الحصار عن أبناء غزة، ووضع مصلحة الشعب والوطن فوق المصالح الحزبية والفئوية الضيقة. وتبقي تلك القوات لحين إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية تُعيد اللحمة والتواصل بين شطري الوطن. وبناء عليه يمكن تحقيق الشروط الأساسية للرئس أبو مازن والقيادة العقلانية لحركة حماس.

 أما في حال لاقت هذه الفكرة معارضة أمريكية أو إسرائيلية فيمكن أن تُتخذ كامل الترتيبات خارج سطوة الفيتو الأمريكي أو النفوذ الأسرائيلي وسبق لنا تجربة خوض معركة جدار الفصل العنصري الشهيرة.
أما أن نظل أسري الشروط والتفاصيل ـ حيث تكمن الشياطين ـ ونبقي ننتظر مؤتمرا هنا وآخر هناك وقمة عربية توصف بالفشل وأخري تدعي النجاح والنتيجة واحدة بالنسبة لمعاناة شعبنا تحت أبشع صور الإحتلال فيبقي الحال علي ما هو عليه ونراوح في مكاننا.

وبكلمة وجيزة، آن الأوان للقيادة الفلسطينية الشرعية أن تنفض غُبار سنوات مضت وتنهض بخطي ثابتة واستراتيجية محسوبة لكي تأخذ زمام المبادرة وتحقن الدم وتضع لبنات المستقبل لأجيال قادمة من حقها علينا أن نُضيء لها مشاعل الحرية دون اسقاط أو تفريط في أي حق من حقوقنا الوطنية الثابتة