...

الفـرار مـن الغـربـة إلـى الضــياع


أسامة عبدالستار موسى الفرا 


التفاصيل

صفحة جديدة 1

لقاء السبت

الفـرار مـن الغـربـة إلـى الضــياع

بقلم: أبو يسار

كثيرون هم الباحثون عن وطن.. فلا يجدون إلا الوهم والسراب، بعدما جمعوا حصاد عمرهم وقدموه رهناً لسفارات أجنبية بعينها للحصول على إذن الهجرة من إحدى البلدان كالدنمارك، السويد، النرويج أو كندا، يشكل الفلسطينيون العاملون في شبه الجزيرة العربية (دول مجلس التعاون الخليجي) غالبية من هؤلاء الباحثون عن السراب، الفارون من الغربة إلى الضياع، ومن ضيق الإجراءات إلى الخنق، هؤلاء المساكين المعتقدين أنهم ذاهبون للجنة .. يجدوا أنفسهم في النار المحرقة، نار الشتات والغربة، ونار فقدان الهوية والإنتماء، ونار التعايش مع الهوية الجديدة وما يترتب عليها من عادات وتقاليد مستحدثة لا يستطيعون التكيف معها فتحرقهم ببطء وهم عاجزون عن إطفائها.

هناك عوامل عديدة تظافرت لدفع هؤلاء الواهمون الفارون للعدو وراء السراب ، بعضها سياسي والأخر إقتصادي، وكلها عوامل تضييق تمارسها حكومات بعينها للتخلص من الكم الفلسطيني المتواجد في بلدانها من جهة، وتفريغ للقضية الفلسطينية من جهة أخرى، وهذا يؤشر لدور دولي يهودي يقف إلى جانب تلك الحكومات (العربية) في الخفاء.

بدأ هذا الوضع في نهاية السبعينيات ونهاية الثمانينيات وتفاقم بعيد حرب الخليج الثانية بإجراءات تعقيدية مارستها حكومات دويلات الخليج في الكويت، قطر، البحرين، عمان، الإمارات والمملكة السعودية، وبدت هذه الإجراءات بعدم تجديد الإقامات للأولاد البالغين سن الثامنة عشر عاماً، وعدم السماح لهم بإكمال دراستهم الجامعية في تلك الدول، الأمر الذي يضطر الأسرة للتفكير بالمغادرة مع إبنها أو إبنتها للبلد الذي يمكنهما الدراسة فيه، إضافةً للتعقيدات التي مست مستوى حياة تلك الأسر المعيشية حيث باتت ظاهرة تكويت العمالة مثلاً في الكويت أو السعودة في السعودية أو القطرنة في قطر أو البحرنة في البحرين ... إلخ تنمو بشدة، وأخذت حكومات تلك الدويلات بحجة تدهور الأوضاع الإقتصادية تستغني عن العديد من العاملين الفلسطينيين في سلك التعليم والصحة ومعظم المؤسسات الحكومية، مما يدفع البعض منهم للبحث عن كفيل من القطاع الخاص حسب نظام تلك الدويلات يستغله إستغلالاً شديداً في الأجور، والبحث عن عمل في شركات خاصة بنصف الأجر أملاً في الحصول على قامة، أما البعض الآخر فيجمع ما إدخره من مال إن كان كافياً ليفكر في الهروب مهاجراً إلى دول أوروبية أو أمريكية (السويد، الدنمارك، النرويج وكندا)، حيث يشترط بعضاً من هذه الدول أن يكون لدى المهاجر مبلغاً من المال يتراوح بين خمسون ألفاً إلى مائتين وخمسون ألف دولار يستطيعوا بواستطه البدء في عمل ما أو مشروع يعتاش منه.

ومنذ بدء الإنتفاضة الثانية عام ألفين بدأت سفارات بعينها تعمل في تل أبيب وقنصلياتها المتواجدة في القدس ورام الله وغزة في فتح باب الهجرة للشباب الفلسطيني وخصوصاً مما تقع أعمارهم بين (20 إلى 26 ) عاماً، وهنا يبرز أيضاً الدور اليهودي في هذه العملية، من خلال إبعاد الشباب تحديداً لتلك الدول كمهاجرين، حيث أن هذا السن هو عصب عملية الصراع مع العدو الصهيوني، واللافت للنظر أن هذه السفارات والقنصليات تقدم تسهيلات غير مسبوقة لهؤلاء الواهمين من الشباب المعتقدين أنهم مسافرون إلى بلاد النور ليأكلوا اللوز بالعسل ويتزوجوا بالفتيات الحسان دون أن يدروا أن بإنتظارهم عسلاً مراً وفتيات الموساد، حيث يوضعوا في معسكرات للمهاجرين تشبه معسكرات الإعتقال لفترة لا تقل عن عامين يجري خلالها غسل أدمغتهم على أيدي محاضرون صهاينة متخصصون ينسونهم آباءهم وحليب أمهاتهم الذي رضعوه، وهذا ما حدث تماماً في منتصف السبعينات للشباب الفلسطيني في لبنان بهدف تفريغ الثورة الفلسطينية آنذاك وعلى يد نفس سفارات هذه الدول (الدنمارك، السويد، النرويج، كندا وألمانيا).

الهدف هو نفسه يتكرر، تفريغ الشعب الفلسطيني من شبابه وبالتالي تفريغ القضية الفلسطينية، والخدمة للكيان الصهيوني المستفيد الأول والأخير من هذه العملية القاتلة، الآن العروض تزداد على الشباب في غزة وفي الضفة كما هي في الخليج، والكل يحلم بوطن وبيت وجنسية وجواز سفر وزوجة بعيداً عن الحاجة والفقر، دون أن يدري أنه يبيع بأرخص الأثمان ويشتري بأغلى سعر، يبيع الإنتماء والوطن والقضية والأهل والتاريخ والعقيدة بلا مقابل، هناك أنت ممنوع من ممارسة الإنتماء للوطن وممنوع من ممارسة العقيدة وممنوع من قراءة التاريخ وإلاٌ فإنك ستصنف متطرفاً، وقوانين مكافحة التطرف جاهزة ومعسكرات الإعتقال التي تشبه معسكر غوانتانامو جاهزة.. هل يفكر أبناؤنا فيما ينتظرهم قبل أن يحلموا بالعسل؟ أم لا بد لهم أن يكتووا بنار الحقيقة ويتذوقوا العسل المر، وهذا لا يمكن إلا بعد فوات الأوان، وما هو دور الأسرة في ذلك؟ وما هو دور القيادات السياسية الملتهية بالمزايدات والمهاترات والمتاجرة بكل شىء؟ وما هو دور الإعلام.. صحافة وتلفزة وإذاعات مسموعة فصائلية وكلها منشغلة بمواضيع باتت تجعلنا نتقزز قرفاً مما تكتبه أو تبثه، متى سيكون إعلامنا قومياً لا فئوياً مقيتاً؟ ومتى تستيقظ قيادات الفصائل من نومها في العسل؟ ومتى ستدرك هذه القيادات البليدة أن الشعب قد كفر بها من كثرة ما تمارسه عليه من تسلط وكذب ودجل معتقدةً أنها تلعب بالبيضة والحجر، بينما أوراقها باتت مقروءة ومفضوحة، فالشعب الذي هو أوعى من قياداته البليدة يدرك جيداً أن صراعات هؤلاء الذين تجري المياه من تحت أقدامهم دون أن يدروا ليست من أجل الوطن، وإنما من أجل كراسي مخوزقة وبدون سيادة أو حتى كرامة.

****************

أخي الفلسطيني.. هناك في زاوية الغرفة ترقد حقيبة سفرنا القديمة.. تحتوي على ملابسنا وذكرياتنا وأحلامنا .. تنتظرنا لحملها والانطلاق بها من غربةٍ إلى غربة.. تحملها سفينةً في أعماق البحار أو طائرةً تحلق في الفضاء.. تحملنا وذكرياتنا وملابسنا القديمة وأحلامنا صعبة المنال.. تهرب بنا من مجهول إلى مجهول..لا ندري في أي ميناءٍ أو مطارٍ سنتوقف لنبحث عن أحلام بعيدة كما هي النجوم.

أخي الفلسطيني.. عليك أن تحلم وتحلم كيفما شئت، ولكن يجب أن يكون هذا الحلم عن الوطن وفي الوطن وللوطن.. فبلا وطن تضيع الأحلام وتضيع معها أنت.. كما ضاع الفارون للمهجر..فباتوا بلا هوية ولا وطن.