...

قتلتنا الردة


أسامة عبدالستار موسى الفرا 


التفاصيل

قتلتنــا الـــــرّدة
احمد الفرا



العنوان مقتبس من قصيدة طويلة إلى الشاعر العراقي الشهير مظفر النواب والتي يقول فبها :
"قتلتنا الردة يا مولاي كما قتلتك بجرح في الغرة
هذا رأس الثورة
يحمل في طبق "يزيد"
وهذي "البقعة" اكثر من يوم سباياك
 فيا لله وللحكام و رأس الثورة
 هل عرب انتم !!!!
"و يزيد" على الشرفة يستعرض اعراض عراياكم
ويوزعهن كلحم الضأن
 لجيش الردة !!!
هل عرب انتم !!!!"

شعرت بارتياح شديد وأتا أقرأ تلك القصيدة القديمة الجديدة رغم استعمال الشاعر الكبير لبعض الألفاظ البذيئة في مقاطع أخرى من القصيدة عند وصفه ما آلت إليه الأوضاع في عالمنا العربي.

وما أشبه اليوم بالبارحة حيث أنه أثناء انسحاب القوات الإسرائيلية الغاشمة من غزة وإعلانها وقف إطلاق النار من جانب واحد والتداعيات التي صاحبت ذلك وما خلفته من دمار وخراب ، كنت قد انتهيت لتوي من محادثه هاتفية مع أخي في خان يونس ، حيث نقل لي على عجل تميز بالثبات والإيمان المطلق صورة عما آلت إليه أوضاعهم ، فذكر من بين المآسي بأنه تم تدمير منزله وأنه لا يوجد لديهم لا كهرباء ولا غاز وأضاف قائلا ً " لكن الحمد لله لا زال لدينا بعض الطحين .. وهذا يكفي لتعزيز صمودنا بإذن الله .." وكم حملت كلماته التلقائية البسيطة من معاني كبيرة سرت في جسدي وهزتني من الأعماق ، ولما سألته عن العائلة ذكر لي أسماء الشهداء والجرحى. ومن قبيل المواساة والمؤازرة سألته إذا ما كان يريد شيئا ً ، فجاء رده هادئا ً: لا أريد إلا سلامتكم واستطرد قائلا ً أنا منذ مدة لم أسمع أخبار لإنه لايوجد الآن لدينا تلفزيون ولا كهرباء ، وفقط أريد أن أسألك إذا ما كنت قد سمعت بأن أحد في العالم سيعمل أي شىء لانقاذنا..!!؟ وهل يذكروننا في الأخبار ..!!؟

وهنا خانتني رباطة الجأش التي حاولت التمسك بها طوال الحديث فواسيته ببعض الكلمات وأردت إنهاء المكالمة حتى لا يدرك الحالة المأساوية التي اعترتني فيتسرب اليأس إلى نفسه.

وكأن كل ذلك غير كاف لي ، فبعد أن أعدت سماعة الهاتف إلى مكانها شعرت بدوار وكأنني أ ُلقيت من فوق جبل ، وما أنا على هذا الحال فإذ بصديق ماليزي قديم ، يرأس منظمة غير حكومية قد اقتحم خلوتي فجاء على غير موعد ورآني أجفف دموعا ً انهمرت على وجنتي دون إرادتي ، فأشرت إليه بيدي أن يتتظرني في الخارج ، ولكنه رفض وقال : أنا لم آت كي أتسامر معك وكنت أنتظر خارج مكتبك وأعلم بأنك كنت تحدث شخصا ً ما في غزة وحضرت لأقول لك كلمتين لا ثالث لهما وهما : "مشكلتكم فيكم".. فنظرت إليه كي أتفحصه جيدا ً وأتأكد بأنه صديقي القديم . فرأيت بجواره غلاما ً لم يتجاوز السابعة أو الثامنة من عمره ، فحملقت في وجه صديقي فرأيته قد تجعد وتدلت منه لحية بيضاء كثة تعلوها شعيرات خفيفة اختلط سوادها قليلا ً ببياضها فتشكل في مجموعها شاربا ً لا يُرى إلا بالكاد ، وغارت عينيه عميقا ً خلف نظارة طبية سميكة وقديمة ، ولا زال في هيئته الشعبية بملابسه الوطنية وقلنسوته السوداء ، فأدركت بأن السنون قد أخذت منه مأخذها ، ولم أنبس ببنت شفه. فابتسم ابتسامة متكلفة كشفت من بين ثنايا وجهه المتجهم عن أسنان غير سوية محشوة ببقايا طعام واستدار خارجا ً ببط ء وكأنه يريدني أن استوقفه ، ففعلت ودعوته للجلوس فجلس على حافة المقعد دون أن يسند ظهره . وهنا حاولت ملاطفة الغلام سائلا ً إياه عن اسمه وما علاقته بهذا العجوز؟ فقال هذا جدى وأنا أحبه. فقلت وأنا أحبه أيضا ً وأردفت هل تحب فلسطبن ؟
فقال: نعم وجدي أحضرني هنا لكي أراك لأنه لم يسبق لي أن رأيت أى فلسطيني إلا في التلفزيون وأنا أحب ياسر عرفات.
فقلت : عظيم هل تريد أن تذهب إلى فلسطين وترى كل الفلسطسنيين هناك ؟
فكان رده كسكين ثلمة تحز في نحري ... ، حيث قال والخوف يخنق صوته: لا، لا أريد أن أذهب ، إنهم يقتلون الأطفال هناك ، وسأذهب عندما أكبر، وسآخذ معي بندقية لأحارب قتلة الأطفال .

 فتمالكت نفسي وشكرته بقبلة واستدرت إلى جده سائلآ ً: ما الذي أتى بك أيها العجوز الحبيب ؟
 قال: غزة قلت : وماذا تريد ؟
 قال: ما أريده قاله لك حفيدي ولدي ما أضيفه.
فقلت: تفضل
قال: عليكم أن توحدوا صفوفكم وتخاطبوا إخوانكم العرب بصوت واحد ولغة واحدة لا مواربة فيها. وتقولوا لهم أدّوا واجبكم نحو فلسطين ، وقتها لن يتجرأ أحد على التخاذل . أما الآن ، فسترى بعد أنتهاء الحرب بأنهم سيتنافخون شرفا ً وحمية ويتبارزون في إرسال كميات الأدوية والمساعدات التي لا تسمن ولا تغني من جوع ويتوهمون ويوهمون شعوبهم بأنهم أدّوا واجبهم ويتعللون بكفى الله المؤمنين شر القتال. وأنتم في فتح وحماس ستدّعون النصر وتزايدون على بعضكم بعضا ً وتتقاتلون من جديد على السلطة المزعومة وعلى ما وصلكم من فتات ، وتتوهمون بأنكم الأعلون وأنكم انتصرتم وحررتم الأرض والإنسان . ولكن الحقيقة أنكم ضللتم الطريق وأضللتم شعوبكم ، وبذلك تكونوا أسوأ من......
فقاطعته قائلا ً: أرجوك ألا تقسو علىّ وكن بي رحيما ً ، فإنني كنت منذ زمن ليس بالبعيد جزء من هذه السلطة التي تتهمها بالوهم والضلال وفقدان البوصلة ، فهناك أمور قد غابت .....
فقاطعني قائلا ً:
 بسم الله الرحمن الرحيم " ولو كنت فظا ً غليظ القلب لانفضوا من حولك " صدق الله العظيم . والله أنا لم أقس عليك ولا على غيرك ولو كنت كذلك لما سمعتني ولا سمعني أحد . أنا لم أقل إلا كلمة حق ، إن أعجبتك فخذها وإن لم تعجبك فاتركها فتكون من الضالين. وأود أن أحيطك علما ً بأننا أرسلنا فريقا ً طبيا ً إلى غزة ولكنه لا زال عالقا ً على معبر رفح ، وسأحدثك عن معاناته على ذلك المعبراللعين وعن تصرفات السلطات المصرية ولكن بعد عودته سالما ً يإذن الله . كما أنني ومنذ بدء الحرب على غزة وحتى قبل حضوري إليك لا زلت أتلقى طلبات من رجال ونساء للتطوع من أجل القتال مع إخوانهم وأخواتهم في فلسطين ، وإننا على استعداد لتجهيزهم وإرسالهم ، ولا تظن بأنني أزايد أو أناقص على أحد بل هذا هو شعورنا الحقيقي ونحن نراقب ما يحدث في غزة ، لأننا توصلنا إلى قناعة منذ أمد بعيد بأن إسرائيل لا تفهم إلا لغة القوة ولا بد أن تشرب من نفس كأس الموت الذي تسقيه إلى الآخرين. ونهض مستأذنا ً في الإنصراف واتفقنا على لقاء آخر .

وعدت بعدها لأستعرض ما قاله ورغم تكرار مثل هذه الصحوات والمواقف إلا أنني ذهبت بعيدا ً لأتذكر الأخوة والأهل والأصدقاء والوطن وما حل بهم جميعا ً ، وهل هذا الزلزال الذي ضرب غزة هاشم كافيا ً كي تعود فيه قيادات الشعب الفلسطيني إلى رشدها أم انها ستظل تتشدق بالشعارات الخادعة التي يتخذ منها العدو الصهيوني ستارا ً للتنصل من إلتزاماته الإقليمية والدولية وفي كل عدوان آثم يتعلل بأمن اسرائيل .

على أحرار شعبنا الفلسطيني بكل فئاته وفصائله الوطنية لا سيما في فتح وحماس أن يأخذوا زمام المبادرة لوحدة جناحي الوطن وتفويت الفرصة ليس على العدو الصهيوني فحسب بل على عملائه وأدواته أيضا حتى لا تكون هناكً فتنة ولا تربة خصبة لمزيد من الزلازل والبراكين . ولكِ الله ياغزة هاشم.


 أحمــــد الفــــــــرا
سفير دولة فلسطين السابق لدى ماليزيا
 كبيرمستشاري المعهد الماليزي للدراسات الإستراتجية والدولية.
شؤون الشرق الأوسط