...

للراحل الضكران جعفر محمد النميري..كلمة وفاء


أسامة عبدالستار موسى الفرا 


التفاصيل

للراحل الضكران جعفر محمد النميري..كلمة وفاء

 

 

الجزء الأول  

بقلم : أبو يسار

 

 

كنت أنوي تقديم قراءة تحليلية لخطاب الرئيس الأمريكي باراك حسين أوباما ولكنني وجدت أنه لا يحتاج لقراءة ولا تحليل ، فهو مجرد خطاب عاطفي تمت صياغته بشطارة وذكاء ، وألقاه الرئيس الأمريكي الذي يتمتع بكاريزما خاصة وقدرة خطابية عالية وذكاء امتاز به عن سلفه الغبي والمعتوه بوش ، لم أجد في الخطاب ما يثير أو ما يغري أي كاتب أو محلل لتناوله كمادة ، فهو لا يخرج عن كونه خطاب علاقات عامة قدمه الرئيس الأمريكي بقصد إصلاح ما أفسده المعتوه بوش والمحافظون الجدد الذين اندحروا في الانتخابات الرئاسية الأخيرة والتي فاز فيها أوباما والديمقراطيون ، بلا شك أنه حاز إعجاباُ ولكنه لم يقدم وعوداً أو التزامات تجاه أي مسألة في المنطقة وتحديداً مسألة الصراع العربي الصهيوني التي هي أُم المشاكل لهذا قررت العودة لكتابة مقالي الذي خصصته للحديث عن الرئيس الضكران الراحل جعفر النميري الذي ظُلم كثيراً من قبل العديد من السياسيين والكتّاب .

لا شك أن شخصية الراحل الرئيس الضكران جعفر النميري مثيرة للجدل ، ولا شك أيضاً أنه كسب عداء الكثير من المتحزبين سياسيين وصحفيين ، لكنه في الوقت نفسه كسب حب الكثيرين من أبناء السودان الفقراء والمسحوقين ، وهذا ما أعرفه شخصياً عنه من خلال احتكاكي بالعديد من أهل السودان أثناء زياراتي للخرطوم وأم درمان بعد خروج النميري من السلطة ، كنت أتحدث مع العامة كسائقي التاكسي والباعة وعمال المطاعم والفنادق فكانوا دائماً يذكروه بالخير والحب معاً ويحنوا لأيام حكمه ويظهروا ندمهم مقارنة بما أصابهم بعد ذهابه ويجمعوا على وصف واحد حيث قالوا أنه رجل ضكران ومعناها باللهجة السودانية الرجل الشهم جداً .  

وكذلك العديد من الأحزاب السودانية والقوى السياسية التي تآمرت على النميري وساهمت في إسقاطه في مايو 1985 وتحديداً الشيوعيين والبعثيين والقوميين ندمت على ما فعلت بعد أن استولى الإخوان المسلمين والعسكر معاُ على السلطة بعيد استقالة الفريق عبد الرحمن سوار الذهب الذي استلم الحكم لفترة انتقالية استمرت عاماً واحداً ( 1985-1986) ثم استقال ورفض الاستمرار في الحكم.

المتآمرون على النميري وفي مقدمتهم جماعة الإخوان المسلمين اتهموه بالفساد وسرقة أموال البلاد ، وهذا منافي للواقع لأن النميري رحمه الله كان يعيش لاجئاً سياسياً في مصر بعد خروجه من السلطة على راتب منحته إياه الحكومة المصرية يكفيه بالكاد ولم يكن في بيته الذي منحته له أيضاً الحكومة المصرية خادم أو خادمة ، وهذا ما سآتي عليه في الجزء الثاني من مقالي لاحقاً ، المتآمرون على النميري وفي مقدمتهم جماعة الإخوان المسلمين والذين أشركهم في الحكم وقربهم منه قبيل نهاية حكمه هم أصحاب الفساد بامتياز ، وهم من سرقوا أموال البلاد وطمعوا في السلطة بعد مغادرته مما دفع الرئيس الحالي البشير لاحقاً للانقضاض عليهم واعتقال زعيمهم حسن الترابي الطامح للحكم بأي ثمن ، وللأسف فهذا ديدنهم عبر تاريخهم الأسود الطويل ، وهذه حقيقة معروفة لكل أهل السودان.

ولد الضكران النميري في ابريل 1930 بمدينة أم درمان وبعد إنهائه المرحلة الثانوية المرحلة الثانوية في مدرسة الهجرة التحق بالكلية العسكرية حيث تخرج ضابطاً ليخدم في الجيش السوداني ، وفي عام 1961 حصل على ماجستير في العلوم العسكرية بعد حصوله على بعثة من وزارة الدفاع السودانية للولايات المتحدة الأمريكية ، تأثر النميري بالفكر القومي الناصري وكان من مريدي الزعيم الراحل جمال عبد الناصر ، في مايو 1969 تعاون معه الضباط البعثيون والشيوعيون في الاستيلاء على السلطة ليصبح رئيساً للسودان ، وللرئيس الراحل جعفر النميري مع شهر مايو موعد متجدد ، حيث تخرج من الكلية العسكرية في شهر مايو واستولى على السلطة في شهر مايو وانقلب عليه المنقلبون في شهر مايو وعاد للسودان من منفاه في شهر مايو وتوفاه الله في شهر مايو ... سبحان الله.

في بدايات حكمه للسودان عام 1969 منح الثورة الفلسطينية الفرصة الكاملة لإعداد كادرها العسكري من خلال منحها 50 مقعداً سنوياً في الكلية العسكرية السودانية ، ومنذ عام 1969 بدأت الكلية العسكرية في السودان استقبال العديد من الطلبة الفلسطينيين الذين كانت توفدهم حركة فتــح ومنظمة التحرير الفلسطينية ، وهناك مئات الضباط والكوادر الفلسطينية الذين خرجتهم الكلية العسكرية في السودان وكانت لهم بصماتهم الايجابية في مسيرة الثورة الفلسطينية.

  وإبان حرب أيلول عام 1970 والتي استهدفت استئصال الصورة الفلسطينية في الأردن ، كان الراحل الضكران جعفر النميري الرئيس الوحيد الذي سارع لركوب الطائرة من القاهرة إلى عمّان يرافقه ولي العهد ورئيس الوزراء الكويتي الراحل المرحوم الشيخ سعد العبد الله الصباح في محاولة لإيقاف نزيف الدم العربي المهدور بفعل الحرب الظالمة التي شنها الملك الراحل حسين على الفدائيين .

وقد تعرض الرئيس الراحل ومرافقيه لقصف دبابة أردنية أثناء تحركه في قلب عمان وتحديداً في الأشرفية  بهدف ثنيه وتخويفه وحمله على مغادرة العاصمة الأردنية ، إلا أن إصراره على البقاء لوقف تلك الحرب وإنقاذ قيادة الثورة الفلسطينية المحاصرة والمستهدفة آن ذاك بشكل مباشر حال دون نجاح محاولات الملك حسين لإبعاد الرئيس النميري والشيخ سعد العبد الله من عمان ، وقد تحمل الرئيس الراحل كل مضايقات الملك حسين الذي كان يتهرب من استقباله ولقائه بل أكثر من ذلك كان يأمر بقصف موكبه ومقر إقامته ، كان لإصرار الراحل الضكران الشجاع على البقاء وتصريحاته الجريئة في قلب عمان والتي فضحت مخطط النظام الأردني آن ذاك لتصفية الثورة الفلسطينية ، الفضل في إفشال مخطط الملك الراحل حسين إجباره على التوجه للقاهرة لحضور القمة المصغرة التي دعى إليها الزعيمان الراحلان جمال عبد الناصر والملك فيصل ابن عبد العزيز ، كما يرجع الفضل للراحل الشجاع جعفر النميري الذي أصر على اصطحاب القائد الرحال ياسر عرفات والذي كانت القوات الأردنية تستهدف حياته بشكل مباشر آن ذاك ، وقد تعرض موكب النميري أثناء توجهه من عمان إلى المطار بعدة كمائن كانت تطلق النار عليه مباشرة وتستوقفه وتقوم بتفتيشه بحثاُ عن أبي عمار المتخفي بملابس كويتية والمرتدي لعباءة الشيخ سعد العبد الله ( عليهم رحمة الله جميعاُ ) ، غادر النميري ومرافقوه عمان ونجح في تهريب الراحل أبو عمار إلى القاهرة ليتمكن من حضور القمة المذكورة رغم أنف الملك حسين كما فضح في مؤتمر صحفي شهير ممارسات وسلوك الملك حسين ومخططه الذي استهدف الثورة الفلسطينية آن ذاك وتحديداً أبي عمار .

في يوليو 1972 تعرض الضكران النميري لمحاولة انقلابية من شركائه في الحكم حيث نظم آن ذاك الشيوعيون والبعثيون عملية انقلابية ضده وتمكنوا من اعتقاله وحجزه في إحدى غرف القصر الجمهوري بالخرطوم ، قاد الانقلاب آن ذاك الرائد هاشم العطا الذي كان يشغل قائد الحرس الجمهوري وفاروق حمد الله وزير الداخلية وأبو بكر النور وزير الدفاع وفاروق أبو عيسى وزير العدل ، استمر الانقلاب ثلاثة أيام فقط تمكن خلالها الرئيس الراحل النميري الذي ضل شجاعاً متماسكاً من الاشتباك بيديه مع الانقلابيين الذين كانوا يحرسوه في غرفة اعتقاله وتمكن من السيطرة عليهم والاتصال بقيادات الجيش لينقلب السحر على الساحر ، ويتمكنوا من القضاء على الانقلابيين الذين أعتقل بعضهم وهرب بعضهم الآخر ، هذا الانقلاب الشهير استمر ثلاثة أيام فقط ( 19-21/7/1972) ، بعيد ذلك أنقض الراحل النميري على الشيوعيين والبعثيين ونكّل بهم ، واستغلت ذلك جماعة الإخوان المسلمين الانتهازية وأيدته علناً في محاولة منها للقفز على المواقع التي كان يشغلها هؤلاء تمهيداً لانقلاب إخواني فيما بعد وتولى حسن الترابي زعيم تلك الجماعة منصب وزير التربية والتعليم حتى عام 1985 وهو العام الذي شهد مغادرة النميري للسلطة نهائياً.

التقيت الرئيس الراحل في ابريل 1984 أي قبل عام من تركه السلطة ، كان مثقلاً بالهموم وكان رئيساً للوزراء إضافة لكونه رئيساً للجمهورية وكان يشرف على كل الوزارات بنفسه في محاولة منه لوقف الفساد ، وعندما سألناه آن ذاك سؤالاً مباشراً ( إلى متى يستطيع كفرد الاستمرار بهذا الوضع ) كانت إجابته مقتضبة وبسيطة حيث قال ( عندما أجد الأيادي النظيفة وأرجوا أن يعينني الله ) ، كان في تلك الحقبة قد كسب عداء كل القوى السياسية المتعددة في السودان والمتعددة في ولاءاتها الخارجية ، وكان الترابي المتعاون الوحيد مع النميري استعداداً للقفز على السلطة وهذا ما حصل بعد عام 1985 ، في مايو 1985 وبعد أن تحالفت ضده كل الأحزاب والقوى السياسية السودانية والمدعومة إقليميا من ليبيا وسوريا والعراق واليمن وحتى السعودية والاتحاد السوفييتي تم القضاء على حكم الرئيس النميري الذي ذهب لمصر منفياً مع زوجته الفاضلة السيدة ثريا التي سأتحدث عنها أيضاً في الجزء الثاني من هذا المقال كوني عرفتها عن قرب.

 

يتبع الجزء الثاني : الضكران في المنفى كما عرفته عن قرب.