...

الراحل النميري في المنفى كما عرفته


أسامة عبدالستار موسى الفرا 


التفاصيل

صفحة جديدة 1

الراحل النميري في المنفى كما عرفته

الجزء الثاني                                                       بقلم: أبو يسار

 

 

 

سألني أحد الشباب لماذا تكتب عن النميري؟ وأضاف هناك العديد من القضايا التي تستحق المعالجة والكتابة أهم بكثير من النميري ، ووعدته أن أجيب على سؤاله في مقدمة الجزء الثاني من مقالي حول الراحل جعفر النميري ، وباختصار فأنا أكتب عن رجل رحل عن دنيانا ، له ما له وعليه ما عليه ، قدم لفلسطين وللثورة الفلسطينية الكثير دون أن يذكره أحد ، ومن واقع انتمائي القومي أكتب عنه وفاءً وإنصافا كونه تعرض للظلم كثيراً من قبل كتاب عرب بعضهم فلسطينيين ؟ اعتادوا الكتابة تملقاً عن حكام لا زالوا في السلطة وبعد مغادرتهم لها يتناولونهم بسياط أقلامهم ، أنا أكتب عن رجل عرفته سطحياً أثناء حكمه وكان لي عليه مآخذ لم تكن دقيقة ، وتعمقت معرفتي به بعد مغادرته سدة الحكم في المنفى فوجدت أنه إنسان كريم وطيب وعزيز النفس متسامح لا يحمل على أحد حتى أولئك الذين تآمروا عليه ، أكتب عنه محاولاً رفع الظلم عنه من جهة ، وليعرفه جيل الشباب من جهة أخرى ، حريّ بنا أن نصف من ظلمناهم في حياتهم ومن تطاولنا عليهم بعد أن غادروا السلطة وفقدوا السلطان.

النميري رحمه الله كان حاكماً متواضعاً بشهادة أهل السودان حيث كان يجامل عامة الناس في أفراحهم وأتراحهم وأذكر هنا رواية حدثني بها السيد حسن دندش وهو سياسي وكاتب سوداني من معارضي النميري ، يقول دندش أنه فوجئ في العام 1983 ( وهي الفترة التي تأزمت فيها العلاقة بين الراحل النميري والقوى السياسية السودانية ) حينما كان يجامل أحد المواطنين السودانيين في عرسه بوصول سيارة الرئيس النميري بدون حراسة أو مراسم أو مرافقة ويترجل منها الرئيس ومعه السيدة ثريا زوجته ، ويضيف دندش توجه الرئيس نحونا في حلقة الرجال فصافح الجميع ثم قبّل العريس ووضع في جيبه مظروفاً يحتوي على فلوس ( نقطة )

وهي عادة أهل السودان بينما توجهت السيدة ثريا إلى حلقة النساء وقامت أيضاً بمصافحة الحاضرات وقبّلت العروس وقدمت لها النقطة ، وعندما سألت دندش إن كان العريس من علية القوم أو المحاسيب قال أن العريس وأهله من فقراء الخرطوم وعامة الناس . هذه شهادة من أحد أعداء النميري رواها لي سياسي سوداني معارض عندما كان النميري في المنفى وليس في السلطة ، وعندما سألت دندش إن كان نادماً على معاداته وزملائه للرئيس النميري أجاب بنعم ، وأضاف أن الشيوعيين والبعثيين والقوميين كلهم ندموا بسبب تآمرهم على النميري ولديهم إحساس عالي بحجم الخطأ الذي ارتكبوه بحق الرئيس لاسيما بعد استيلاء حسن الترابي وجماعته على زمام الأمور في السودان.

فاروق أبو عيسى وزير العدل الأسبق في السودان ، والمشارك في المحاولة الانقلابية ضد الرئيس جعفر النميري في 19 تموز 1972 مع هاشم العطا ، والذي هرب على مصر بعد فشل الانقلاب آنذاك ثم أصبح رئيساً لاتحاد المحامين العرب ولا زال حتى الآن والصادر بحقه حكماً غيابياً بالإعدام من المحكمة العسكرية في الخرطوم عام 1972 بعيد الانقلاب الفاشل ضد الرئيس النميري ربطتني به علاقة قوية منذ تواجدي في القاهرة عام 1991 ، دعاني ذات مرة حيث كنت في بيته لمرافقته لزيارة أحد السودانيين المقيمين في القاهرة ، ولم يعلمني حينها من هو هذا السوداني ، توجهنا سوياً إلى مصر الجديدة وتوقفنا أمام منزل قديم ( فيلا ) يقع على تقاطع شارع الثورة مع شارع العروبة بالقرب من قصر البارون ، وعندما توقفنا هناك شرع بقرع الجرس ، لحظات وخرج لنا رجل يرتدي الزي السوداني وفتح الباب ، فوجئت أن هذا الرجل هو الرئيس جعفر النميري ، تعانقا فاروق والرئيس على الطريقة السودانية ثم توجه الرئيس نحوي وسلم عليّ دون أن يعرفني ، ودخلنا إلى البيت وأنا في حالة من الدهشة والتعجب.. لماذا؟ فاروق الانقلابي والمحكوم سابقاً بالإعدام من قبل الرئيس النميري يجلس في بيت النميري ؟!، سمعت الرئيس الراحل بعيد جلوسنا في الصالة يقول مخاطباً زوجته ( يا ثريا أحضري لنا الكركديه عندنا فاروق وصاحبه ) جاءت السيدة ثريا وأحضرت إبريقا من الكركديه المثلج وسلمت علينا بترحاب وأشار لها الرئيس بالجلوس ، كانت الدهشة لا تزال مسيطرة عليّ ، وكان فاروق أبو عيسى يلاحظ ذلك .. فقال أنا أقرأ حجم الدهشة على وجهك ، ولكننا أهل السودان هذا سبرنا نتصارع ونتقاتل أثناء النهار ثم نقضي الليل سوياً كأصدقاء لسنا مثلكم في الشام أو العراق ، وأضاف أخطأنا بحق الرئيس عام 1972 ، واكتشفنا حجم الخطأ الذي دفعنا ثمنه في حينه ، والرئيس سامح وصفح ، ثم نظر للرئيس وقدمني له ، ذكّرت الرئيس بلقائه لنا في الخرطوم في السنوات الأخيرة من حكمه فوضع يده عل جبينه برهة قصيرة وقال نعم ، وقام من جديد وسلّم عليّ بحرارة ثم قال ( ثريا طباخة ماهرة واليوم عندنا ملوخية ) فقاطعه فاروق أبو عيسى قائلاً ونحن خبراء في التذوق ، ردت السيدة ثريا على فاروق مازحة ( أنت ما صدّقت )، كانت جلسة حميمية ولم أكن لأصدق ذلك لو لم يحدث أمامي ، بعد أن تناولنا الغذاء في بيت الرئيس وشربنا الشاي غادرنا البيت ونحن نسمع إلحاح الرئيس وزوجته بضرورة تكرار الزيارة .

لفت انتباهي أن الرئيس لا يملك خادماً ولا خادمة ولا طباخ ولا طباخة ، وكانت السيدة ثريا قد أعدت المائدة بنفسها وكانت المائدة عبارة عن طبيخ الملوخية بالحمام وبجانبها السلطة والخبز البلدي فقط ، كما أنني عرفت أثناء تلك الزيارة أن الرئيس النميري والسيدة قرينته ليس لديهما أبناء أو بنات فهما لا ينجبان.

تكررت زياراتي لمنزل الرئيس الراحل النميري في مصر الجديدة وتعمقت علاقتي به كنت إذا غبت عنه فترة بسبب سفرياتي الكثيرة عبر الهاتف مستفسراً عن سبب غيابي عنه الأمر الذي اضطرني لإبلاغه قبل سفري بأنني سأتغيب عن القاهرة بسبب السفر.

كان الراحل النميري كريماً لأبعد الحدود رغم شحة إمكانياته ، ويملك نفساً عزيزة تمنعه من قبول مساعدات أو هدايا من أحد ، كان لديه أصدقاء كثر ( سودانيين وعرب ) بعضهم أمراء وشيوخ ورؤساء وزارات ووزراء ، ولم يكن يقبل منهم شيئاً ، وكان يكتفي بمرتب اللاجئ السياسي الذي تقدمه له الحكومة المصرية ، عرضت عليه مالاً وتوسلت إليه قبوله ولكنه أبى وبشدة ، وقال لي إذا رغبت في استمرار صداقتنا وزيارتنا في بيتنا لا تحاول عرض هذه المسألة مرة أخرى .

كنت ذات مرة مسافراً إلى بيروت وأبلغته عن وجهة سفري وسألته إن كان يرغب في شيء من لبنان وبإلحاح فطلب من كيلو قهوة من قهوة الرفاعي هذا كل ما طلبه وعندما سألته من أين يعرف الرفاعي قال أصدقائي اللبنانيين يحضرون لي هذه العلامة من القهوة .

كان الراحل قومياً وبلا حدود ورأيته يعتصر الألم عندما يتحدث عن الانقسام العربي جراء حرب العراق الكويت وما تبعها لاحتلال أمريكي للمنطقة ، كما كان يتألم لما حدث في الصومال والحرب الأهلية الدائرة جراء بروز المليشيات المسلحة فيها.

عندما كنا نتحاور في الوضع الفلسطيني كان يقول عن الحكومات العربية أنها تختلف على حجم حصصها من النفوذ داخل منظمة التحرير الفلسطينية ولا تختلف على فلسطين .

ذات مرة سألته مباشرة لماذا رفض قرار القمة العربية التي انعقدت في بغداد عام 1978 بمقاطعة مصر فقال بوضوح ( ما أخذه عليّ خصومي أنني لم أقطع علاقتي بمصر بعد دخولها في اتفاقية كامب ديفيد أسوة بالدول العربية الأخرى ، لدي قناعة أن مصر والسودان توأم ملتصق لا يمكن فصله عن بعضه وإذا تم الفصل يموت هذا التوأم ، كما أن تخلي العرب عن مصر يعني تركها للأمريكان والعدو الصهيوني للاستفراد بها ، السادات أرتكب خطيئة كبرى لماذا تعاقب مصر والشعب المصري الطيب الغلبان بخطيئة السادات ، الدول العربية كلها أخطأت عندما تخلت عن مصر والسادات أخذ جزائه وذهب وبقيت مصر .

كما كان يتحدث بألم عندما يردد أعداءه وبالتحديد جماعة حسن الترابي اتهاماتهم له بالفساد وسرقة أموال البلاد ، وكان يقول ( الحمد لله أن يدي نظيفة وحياتي مكشوفة في المنفى لأهل السودان وهم يزوروني هنا في منفاي ويعتذرون لي ويقولون لي لقد ظلمناك يا جعفر ).

الحديث عن الرئيس الراحل في المنفى يحتاج لصفحات عديدة ولو أردت الاستمرار في الكتابة عنه سأحتاج لعدد طويل من الحلقات المتصلة. رحم الله جعفر النميري ذاك الرجل الطيب المتسامح وكل التحية والمحبة لزوجته الفاضلة السيدة ثريا .