...

أعيادنا ... بين ظلام العــادة و أنوار العبـــادة


محمود رفيق الفرا

محاضر جامعي

التفاصيل

أعيادنا ... بين ظلام العــادة و أنوار العبـــادة

بقلم : محمود رفيق الفـرَّا

ها نحن ودعنا الأيام الأخيرة من شهر رمضان , ذلك الشهر الذي ارتبط اسمه ارتباطا وثيقا بالطاعات و العبادات فلا يكاد يذكر هذا الشهر حتى يسترجع السامعون ألوان العبادات و الطاعات و القربات لرب الأرض و السموات.

و إذا كنَّـا ودعنا موسم الطاعة العظيم فإننا استقبلنا بعده مباشرة موسم طاعة من نوع آخر ألا و هو عيد الفطر المبارك الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : ( للصائم عند إفطاره فرحتان , فرحة ... )

هذا العيد و الذي هو موسم خاص من مواسم الطاعة , و الذي هو مكافأة من الله سبحانه و تعالى للصائمين ... لا يستنكف أن يظل في حقيقته و أنه أيام للطاعات و التقرب إلى الله و لكن في ثوب الفرح و السعادة و البهجة, فالله سبحانه و تعالى و رسوله صلى الله عليه وسلم أرشدونا إلى أن أيام العيد هي أيام سعادة و بهجة و سرور فثبت عن أنس بن مالك قوله قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما فقال : «ما هذان اليومان ؟ قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله قد أبدلكم بهما خيرا منهما يوم الأضحى ويوم الفطر» .

فهي أيام للعب و المتعة و الفرحة و لكن أي لعب و أي فرحة و أي متعة التي كان يفرحها النبي صلى الله عليه وسلم و أصحابه ؟! و هل من المعقول أن يبيح الله لنا في أيام العيد تلك الأيام التي تلي شهر رمضان , أن يبيح لنا فيها معصيته ؟! كلا و رب العزة ... و لا ينبغي لربنا أن ينهانا في العام كله عن معصيته ثم يأتي في أيام العيد فيبيح لنا ذلك ...

إنَّ فرحة العيـــد تكون بشراء الحلوى و الألعاب للأطفال و تبادل المعايدة بقول : "تقبل الله منا منكم صالح الأعمال" أو "كل عام أنتم بخير" . و أن نصل فيها الأرحام و أن ندخل على أهل بيوتنا الفرحة بكل الطرق الشرعية المباحة مثل إعطائهم الهدايا و الأطعمة و التزاور فيما بيننا.

إلا أن هذا الأمر للأسف يفعله الناس و يخلطونه بألوان من المعاصي بل و يجاهرون ربهم في هذه الأيام بالمعاصي و ما كان ذلك إلا لأن ظلام العادات كَبرت في قلوبنا و عظمت بينما صغرت و اضمحلت في قلوبنا أنوار العبادة و طاعة رب العباد.

و إذا ما قلت لأحدهم لا تفعل كذا و كذا فهذا حرام , قال لك و ماذا يقول الناس ؟ ! أخجل أن أفعل هذا فيضحك الناس مني أو يتضايق مني الناس أو يلومونني الناس , ويا لعجبي ممن يستحي و يخجل من الناس و لا يستحي من رب الناس !! كيف لهذه المعادلة أن تتم لا أعرف !!

أنخشى الناس و الله أحق أن نخشاه ؟! ماذا سنقول لربنا سبحانه غدا عندما يقول لنا : "اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا " ... ماذا سنفعل غدا إذا ما تحققت أمام أعيننا آية "وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا "

ماذا سنقول لربنا بعد أن يكفنونا الأصحاب و الأحباب و يلفون الساق بالساق و يضعوننا تحت التراب و يتركونا وحدنا فنسأل و لا معين لنا إلا أعملنا.

أخوة الإيمان و الإسلام إن من أشهر المعاصي التي يجاهر الناسُ بها ربَهُم في هذه الأيام خاصة و في بقية الأيام عامة اختلاط الأرحام بغيرهم , فتجد المكان الواحد يجمع أبناء العم و الخال و العمة و الخالة صغيرهم و كبيرهم , شبابهم و فتياتهم ذلك في وقت تتزين فيه الفتيات بارتداء أجمل الثياب و وضع المساحيق المختلفة (الميك أب ) على وجهها ... و ترتفع أصوات الضحك و يظهر الخضوع بالقول (كلام نواعم) في جو لا يسعد به إلا شياطين الجن و الإنس !!!

حيث إنَّ الاختلاط من أهم مفاتيح الشيطان التي يحبها و يعشق استخدامها لنشر الرذيلة و الفساد في المجتمع فإن النظرة تلو النظر و الضحكة تلو الضحكة تنبت بين الجنسين الإعجاب ثم الحب ثم التفكير فيما حرم الله , و حتى لو لم يحدث هذا الأمر , فإن مجرد الاختلاط مثير للفتنة بين الشباب و الفتيات و هو بكل تأكيد يغضب رب العالمين ... لقول النبي صلى الله عليه وسلم : (إياكم والدخول على النساء ) ، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله: أفرأيت الحمو؟ قال: « الحمو الموت » ، والمراد بالحمو: أقارب الزوج أو الزوجة من غير الأرحام.

و من المعاصي التي يرتكبها الناس في هذه الأيام مصافحة غير الأرحام , فمن الناس من يصافح ابنة عمه أو خاله , و منهم من يصافح زوجة خاله أو عمه و منهم من يصافح من ليس بينه و بينها علاقة أصلا ... و ما هذا كله من الدين فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول : (لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له) –أي ليست من محارمه-

و هذه المعصية منتشرة و للأسف في مجتمعاتنا انتشار الماء في البيوت و إذا واجهت الناس بحقيقة حرمانيتها سمعت منهم أعاجيب ما أنزل الله بها من سلطان , كأن يقول لك : "معلش زي أخوها" ... "معلش زي أبوها" و لا أعرف في حدود ما أعرف أن الله سبحانه و تعالى أنزل لنا أحكام التعامل مع من هم "زي أخوها و أبوها" و لا حول و لا قوة إلا بالله ...

و من المعاصي أيضا و هذا أخيرا على سبيل الذكر لا الحصر حضور المهرجانات المصاحب لها موسيقي و اجتماع الذكور و الإناث فيها , في ساحات عامة أو قاعات مغلقة .

فإن هذه المهرجانات فيها من المعاصي ما فيها , فبداية حضور الموسيقى لقول النبي صلى الله عليه وسلم : "ليكونن من أمتي قوم يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف "

و كذلك لما فيها من اختلاط و ارتفاع للأصوات من الجنسين و خضوع بالقول و كل ذلك ليس من الدين بشيء ...

أحبتي ها هي أيام العيد قد انقضت , و إن كانت المعاصي فيها قد وجدت فإن الخير فيها كان موجود بالطبع و لكن الإنسان الطموح صاحب الهمة العالية لا يرضى بالقليل من الخير بل يبحث عن أقصى المتاح , أقول هذا ختاما لكلامي و ردا على من سيقول "إحنا عملنا كل حاجة في الدين و مش فاضل إلا الاختلاط و الموسيقي!!" , فأقول لهم إن الإيمان شعب و درجات , و الإنسان المؤمن صاحب الهمة العالية يجتهد في التمسك بشعب الإيمان و يجتهد في تحقيق ما يستطيع منها مصداقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء سيد الاستغفار : (وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت) , فمن يستطيع التمسك بشعبة من شعب الإيمان يتمسك بها و يجتهد في ذلك , فالشعب ليست متتالية و ليست معتمدة على بعض.

و اعلم أخي الحبيب إنه لا مقارنة و لا قياس بين إرضاء الله سبحانه و تعالى و إرضاء الناس , بل إنَّ الله تعالى توعد من يُرضي الناس في أمر فيه سخط لله تعالى , توعده بأن يَسخَط عليه و يُسخِط عليه الناس لقول النبي صلى الله عليه وسلم : (من أسخط الله في رضا الناس سخط الله عليه وأسخط عليه من أرضاه في سخطه ومن أرضى الله في سخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه من أسخطه في رضاه حتى يزينه ويزين قوله وعمله في عينيه) ...

فإياكم و إرضاء الناس في سخط الله ...

استودعكم الله ....