...

عقبات في طريق الحياة


أسامة عبدالستار موسى الفرا 


التفاصيل

بسم الله الرحمن الرحيم

21 يناير 2010م

عقبات في طريق الحياة

بقلم : الدكتور/ عبدالشكور عبدالرحمن الفرا

يعيش الإنسان في مجتمعنا الفلسطيني ضغوطاً اقتصادية واجتماعية كثيرة ، والإنسان وحدة نفسية وجسدية ، يولد بدرجة ما من الاستعداد للإصابة بالأمراض النفسية ، ثم تأتي البيئة بكل ما فيها من ظروف سياسية واجتماعية واقتصادية ، لتساعد في ظهور الأمراض النفسية بدرجةّ كبيرة ، وتساهم في غياب العلاج الطبي الدوائي والأسري والاجتماعي إلى تطوّر هذه الحالات لتصل إلى حالة الخطر .

كما أن النفوس المريضة ظاهرة إنتشرت في أوساط المجتمع بآثارها السلبية النفسية والاقتصادية والاجتماعية . ويمكن أن نتساءل هل النفوس المريضة وباء على المجتمع ، هل هي تزيد المجتمع تعقيداً ، هل أصحابها يقلبون الحقائق وينتصرون للأشخاص دون المباديء ، هل هي سريعة التساقط والزوال ، هل هي وجوه تعلوها إبتسامة صفراء تخفي ما يكمُن بداخلها من حقد وكراهية ، هل هي تأخذ الكل ولا تعطي إلا أقل القليل ؟!.

بلاشك إن أصحاب النفوس المريضة يلجأون دائماً للحديث في الشكل دون الجوهر ! إن أصحاب النفوس المريضة يحرقون أنفسهم قبل أن يحرقوا الأخرين .

ولكن يبقى الذهاب إلى الطبيب النفسي أمراً مرهوناً بعوامل كثيرة ، فالأسرة لا تقوم باصطحاب مريضها إليه إلا عندما يصل إلى مرحلة يصبح معها اتصاله بالواقع غير سليم فيصبح مؤذياً لنفسه ولمن حوله ، وأن الاستفادة من العلاج الطبي الدوائي تحتاج إلى وجود مستوى مرتفع من الوعي الاجتماعي .

ورغم أن الوعي بالمشكلات النفسية قد ازداد كثيراً خلال السنوات الأخيرة فإن الأمراض النفسية أصبحت أكثر عدداً وتعقيداً كنتيجة طبيعية لما آلت إلية حياة شعبنا الفلسطيني ، وأصبح معظم مراجعي العيادة النفسية من الجيل الشاب ، ورغم أن الحياة في المجتمعات المتقدمة أكثر تعقيداً ، لكن لديها الكثير من الوعي في كيفية التعامل مع الأمراض النفسية وسبل علاجها .

إن اللجوء إلى المزايدات ونرجسية النفوس المريضه والعقول التي اصابها الكسوف الفكري وتجاهل ادبيات الحياه وقيمها الأخلاقية وظاهرة الهروب من مواجهة الواقع ورمي اللوم على الآخر ، سوف يزيد الأمور سوءاً ويدفع بالجميع للدخول في متاهات الضياع .

لقد أصبح الطفل الفلسطيني يعاني من اضطرابات نفسية لعدم شعورة بالأمان والحب والحنان في محيطه الأسري بسبب الخلافات بين الأشقاء أو الأبوين أو وفات أحدهما أو انفصاله ، إن معاناة شعبنا الفلسطيني في مواجهة الصدمات والإعاقات المزمنة والإخفاقات المتوالية تولد لديه شعوراً بالعجز والفشل الذي ينتج عنه آثار جسدية ملموسة لايستهان بها كالأزمات القلبية ، السكتات الدماغية ، السكر ، إرتفاع ضغط الدم ... أليس هذا هو واقع حياة شعبنا الفلسطيني حالياً .

ولكن هل القدرة على الاصغاء والاستماع هي فن يتقنه المرء أم موهبة تولد مع الإنسان وتنمو معه ؟ وما أكثر الأشخاص الذين حباهم الله لساناً لا يهدأ ولا يستكين ، حيث يبدأ بفكرة لينتقل إلى أخرى وهكذا حتى نضيع بين الأفكار ولا نعرف أين كنا وأين أصبحنا ، ويمضي الوقت دون أن نصل إلى الخبر المراد الحديث عنه .

إن شعبنا الفلسطيني هو بحاجة ماسة لمن يصغي ويستمع إليه ، لأن لديه من المشاكل والمآسي ما يجعله في أشد الحاجة لمن يشاركه ولو مشاركة وجدانية ، فالطفل الذي بدأ يتعرف على العالم المحيط به شيئاً فشيئاً تتوارد إلى ذهنه الغض تساؤلات كثيرة لتفسير كل ما يحيط به ، فيبدأ بالتساؤل المتكرر والذي لا يتحمله الكبار أحياناً ، فيُقابَل بالزجر أو بالعبارة المعهودة مازلت صغيراً على معرفة ذلك .

إن من كان لديهم القدرة على الإصغاء والاستماع هم في مأمن من كل ذلك بسبب طول بالهم ، لكنني أخص بالذكر الشريحة الكبرى من الشعب الفلسطيني التي لا تستطيع الصبر على الشرح الطويل أو الكلام الذي لا ينقطع ، حيث أن الزمن الحالي وإيقاع الحياة بات سريعاً جداً بحيث يتطلب منا أن نقول للآخر إختصر أو أعطني زبدة الكلام ، ولكن عندما نتحدث لشعب تعرض لكافة عقبات وضربات الحياة وقساوتها ويريد أن يوضح مكنونات صدره ، حبذا لو نصغي له ونسمعه فقد يكون ذلك سبباً لطمأنينته ، أو مصادفتنا لرجل عجوز يعيش وحيداً ويشعر بأنه نسي الكلام وأصبح خارج الحياة ، فجميل منا أن نستمع له ونتحمل ما يقول وحتى أن نجامله ، لأن ذلك قد يكون بمثابة البلسم الذي يُحَسّن من نفسيته واستمراريته في الحياة . أما عندما يوجه لنا طفل ما أسئلة كثيرة ، من اللطف أن نتجاوب معه ونحاول مجاراته في تفسير ما يراه وتقويمه دون أن نصده أو نزجره أو نوبخه لأن ذلك قد ينعكس على حياته مستقبلاً وعلى تعامله مع الناس وتجاوبه معهم ، ويبدو أن هذه القدرة التي يتمتع بها بعض الأشخاص هي في جزء منها فن وجزءها الآخر موهبة .

وفي حياتنا اليومية توجد أنماط متعددة من البشر يقابلها الإنسان ويتعامل معها ، إما بشكل يومي أو على فترات متقطعة أو على حسب ما تسمح به الظروف من وقت لأخر . ومع تعدد هذه الأنماط والشخصيات ، إلا أنه يمكننا عند تجريدها من الزيادات التي علقت بها نستطيع أن نحصرها في شخصيتين رئيستين ونمطين أساسيين وهما .. الشخصية ذات الأصل الطيب ، والشخصية ذات النفس المريضة والتي دائماً تشعر بالنقص فتداريه بالغرور والتكبر على الناس .

وهاتان الشخصيتان المتناقضتان نجدها في حياتنا اليومية إما في مجال العمل ، أو مجال الدراسة ، أو حتى مجال الجيرة ... وفي كل نواحي الحياة قد تصادف هاتين الشخصيتين . لكننا نشفق على الشخصية المريضة وندعوا لها بالشفاء من الأمراض النفسية الخطيرة حتى لا تتمادى في غيها وجهلها ، لأنها سوف تسقط وتقع كما سقط من سبقها ممن كان على شاكلتها .

لقد زاد لجوء أصحاب الشخصية المريضة إلى العمليات التجميلية الصورية في السنوات الأخيرة بدرجة فاقت كل التوقعات ، ففي مجتمعنا الفلسطيني أصبح التجميل الصوري ظاهرة تتلاعب بالعوامل النفسية والاجتماعية والثقافية للشعب ومن المؤسف أن يعتقد البعض بأن تحسين المظهر وليس الجوهر هو الهدف والغاية التي نتطلع إليها جميعاً . فكم من رسمٍ جميل خلا من معني رفيع !. إن هذة العمليات إنما تعكس ميلاً شخصياً إلى استقطاب الأضواء من خلال تلاعبها بعواطف ومشاعر الناس .

لاشك في أن الحقد والحسد هو مرض العصر الذي أصاب قلوب البعض في مجتمعنا ، وهو من أخطر الأمراض التي يشكل إنتشارها خطراً كبيراً على المجتمع ، لأن الناس دائماً يخشون من إنتشار أمراض الجسد فيأخذون الحيطة والحذر ، وينسون الوقاية والحيطة من إنتشار أمراض القلوب ، فمرض الجسد يؤثر على صاحبه وربما تعدى أثره إلى عدد محدود من الناس ، لكن أمراض القلوب إذا إنتشرت سوف تؤثر على المجتمع بالكامل .

ولكن يبدو أن الاكتئاب هو مصير حتمي لكل فئات شعبنا سواء كان رجل ، إمرأة ، شاب ، فتاة ، طفل ، نتيجة الإرهاق النفسي من لوعة فراق الأشقاء وغدر وظلم الأعداء وإبتعاد الأصدقاء وعقبات الحياة وألم المعاناة .

وبينما كنتُ أنظر إلى شاشة الكمبيوتر أمامي ، شعرت بحاجةٍ لتأملٍ أعمق في منظر طبيعي خلاب على خلفية الشاشة لهضبةٍ يغطيها العُشبُ الأخضر ، تلبسه الأرض لتختال مزهوة بجمالها ، تقف عليها شجرة وحيدة متناسقة القوام شامخة الأغصان ، ترتفع أوراقها معلنةً استقبالها للشمس ، تنشر على الأرض ظلها ، كأنه طرحة عروس تختال خلفها .

أسرني هذا المنظر البديع ، وقفز قلبي عندما سمعت صوتاً هادئاً حزيناً يناديني . أمعنت النظر أكثر في الشاشة ، وأيقنت في تلك اللحظة أنني أصبحت داخلها تناديني تلك الشجرة لأقترب منها . إقتربتُ وخطواتي المترددة تعلن خوفها واستغرابها من شجرةٍ تتكلم . قالت لي بهدوء : لماذا تتردد ، ألا تعلم أني أحتاج إليك . أحتاجُ إلى من يسمعني ... من ينصتُ لآهاتي وآلامي وأحزاني ؟ .

تشجع لساني ونطق أنت متألمة ... معذبة ! ... لماذا .... وأنت الجميلة الملكة الواقفة على هذه الهضبة تتأملين الأرض والأشجار وهم جميعاً دونكِ ؟ . سمعتُ صوت قهقهتها الحزينة ثم قالت : حقاً !... هذه هي الصورة التي ترونها جميعاً لكنها ليست حقيقة أحاسيسي ، ومن منكم ينظر في أعماق الآخرين ؟. أنتم مجتهدون جداً في رؤية المظهر والحكم على الأشياء من خلاله ، لكنكم تتجاهلون التطلع إلى أعماقه وكشف حقائقه فأنا أشعر بالكأبة مثل البشر .

أليس هذا هو حال الكثير في مجتمعنا الفلسطيني ، لقد أصبح الاجتهاد في تحسين المظهر ثقافة حتمية لدى البعض يختبؤن وراءه كمن يضع على وجهه قناع من مساحيق التجميل الرائعة لا يريد أن يُظهر الوجه الحقيقي له .

كما أن الحياة يأتي إليها الكثير من البشر في كل لحظة ويغادرها الكثير أيضاً في نفس اللحظة ، فالحياة تستقبل دوماً من يقدمون عليها وسط ترحيب وأمنيات طيبة من الأهل ، وتودع الكثيرين بعد أن عاشوا حياة لم يسعدوا بها ولم يحققوا فيها إلا القليل من أحلامهم وهزمتهم عقبات الحياة التي سمحوا لها أن تتراكم داخل قلوبهم وعقولهم فانهزمت الروح في الصراعات المختلفة داخل المجتمع .

لكن المنتصر في الحياة هو من ينتبه للإشارات في الوقت المناسب فيقفز بعيداً قبل تزايد الخسائر ، وعندما يتعرض لإنتكاسة عارضة لا يحتكر الرثاء لنفسه ولا يبحث عن الإنقاذ الخارجي ولا يطيل الجلوس على الأرض ، بل علية أن يسارع في إحتواء ألمه وأن يداوي جراحة .

ولكي تتغير الصوره القاتمه التي تشكّلت مكوناتها وعناصرها على مدى السنوات الأخيرة لا بد من بذل جهود مخلصة وصادقة وأمينة وعمل جماعي مكثف نستطيع من خلاله تحرير النفوس والعقول من قيود الجمود والصراع والتشويه وتنظيف القلوب من الضغائن والحقد والحسد والكراهية وكافة العقبات التي تقف في طريق حياة شعبنا . وهنا نتذكر قول الشاعر.

ومن لا يحب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحُفر

أليس من الحكمة والمنطق أن يكون لدى كافة الأطراف في الساحة الفلسطينية الإصرار والرغبة في تكرار محاولة الإصلاح فيما بينها بما يخدم المصلحة العامة . فالطفل عندما يفشل مرة في اصلاح لعبة يحبها ، يصبح لديه إصراراً كثيراً على إعادة محاولته وربما لجأ إلى استخدام وسائل متعددة لكي ينجح في ذلك .

لقد أصبح كل فرد من شعبنا الفلسطيني يردد في كل لحظة فلسطين أنت قلبي الألم يمتد من يدي إلى قلبي ، إلى كل جزءٍ من جسدي ، يمتحن قدرتي على التحمل , يمتحن دموعي النازفة , ويقتل كل جمال الحياة في داخلي ... وتبقين أنتِ فقط مزروعةً كشجرة سنديانٍ دائمة الخضرة ، يركض حبك مع دمي ويغذي قلبي المريض ، يقدم له أفضل علاج ، وأشعر بفؤادي ينكمش على نفسه ، يتقلص من ألمه ويخبئ في طياته صورتك .

لكن تتزاحم الأفكار وتتشتت الأذهان وتحترق الأعصاب وتغلي الدماء داخل كل غيور على بلاده وأهله ومجتمعه ... ولكن آهٍ من صمتٍ مطبق ، وإهمال ولا مبالاة من الجميع ... آهٍ متى سنفيق ونضع حداً لفراق الأشقاء ؟! لقد فاض الكيل . وإذا أردتم الأدلة على ذلك فأبحثوا في خفايا وخبايا مجتمعنا الفلسطيني الصابر الصامد المجاهد !!!.

ندعو الله أن تزول كافة العقبات .،،،،

والله ولي التوفيق .،،،،