...

لا ضير في الاختلاف


أسامة عبدالستار موسى الفرا 


التفاصيل

لا ضير في الاختلاف

بقلم: بلال عادل الفرا

15-4-2010م

" لن أضع يدي في يد حمساوي " كلمات نزلت علي كصاعقة هزت كياني بعدما كنت أتحدث معه ناصحاً إياه بالصلاة في المسجد ومن المتعارف عليه لدى أبناء الحركة الإسلامية بعد الفراغ من الصلاة والخروج من المسجد يصافحون بعضهم البعض ويسلمون على من يمر بجانبهم في حلقة تجمعهم وذلك في معظم مساجد القطاع, لم أكن أعلم أن هذا التصرف سيمنعه من الصلاة في المسجد خشية من مصافحة أحدهم, وهنا أتساءل أما آن الأوان أن نقف سوياً على بر الأمان؟ ونسخر اختلاف أفكارنا لصالحنا, ونرتب صفوفنا ونجمع أقوالنا لصالح أمتنا, وأن نصطف صفاً واحداً لا يفرقه مارق ولا يكدّر صفوه غادر, لا أقول هنا أن يتخلى الشخص منا عن أفكاره ومعتقداته وأن يذوب في كأسٍ واحد بغية الإتحاد, ولكني أقول أن لكل شخصٍ دائرة فكرٍ ومعتقدات هو يؤمن بها ولا بد من وجود قاعدة مشتركة بين أي دائرتين تصلح لأن نتفق من خلالها ونتوحد ونعمل سوياً بصرف النظر عن باقي الدائرة التي لا نتفق معاً فيها, ومما لا شك فيه وجود ما لا أحبه عندك وحتماً ستجد ما لا تحبه عندي ولكن فلنقف سوياً على البقعة التي توحدنا تلك البقعة التي تشابهت فيها أفكارنا وتوحدت من خلالها أهدافنا وإن اختلفت الوسائل التي ستحقق تلك الأهداف ولكن يبقى ما يجمعنا ويوحد كلمتنا, وصدق الإمام العلامة محمد رشيد رضا بوضعه قاعدة ذهبية جليلة قال فيها:" نتعاون فيما اتفقنا عليه, ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه " وهذا ليس بعيباً بل إنه إذا طبق كلٌ منا هذه القاعدة لوجدنا أرضاً خصبة للتعايش واحترام الآخرين وتقدير وجهات النظر, ولا ضير أبداً في اختلاف وجهات النظر بل أكاد أقول أن في الاختلاف قوة وثراء إذا كان ما بعد الاختلاف تقدير لوجهات النظر واحترام الآخرين -لا أن يفهم أحدهم قصدي في أن الاختلاف بمعنى التعدي على الآخرين وإراقة مزيدٍ من الدماء- ولكن الاختلاف الذي أعني هو الاختلاف في الفرعيات لا الأصوليات والمختلف عليه لا المتفق عليه والأمور التي ليس بها نص ودليل لا القطعيات, وبناءً على هذا الاختلاف فقد وضح الدكتور العلامة يوسف القرضاوي ذلك في نقطة جوهرية في أحد مؤلفاته قائلاً: يجب علينا أن نقدر وجهات النظر الأخرى, واحترام آراء المخالفين في القضايا ذات الوجوه المتعددة, في الفقه وغيره ما دام لكلٍ دليه ووجهته, فهذا الاختلاف لا يمنع الحوار البنّاء في ظل التسامح والحب.

وحبذا لو اقتنع الناس بفكرة أن اختلاف الناس غنى وثراء للأمة, فإن اختلاف أفكار مخترع عن آخر يعني اختلافه في طريقة تفكيره ووصوله إلى النتائج, وإذا جمعنا حاصل تفكيرهما نكون بذلك قد ربحنا غنى وثراء الاختلاف بكوننا وصلنا إلى أمر لم يكن ليعلمه عالم لوحده ولكن بجمع الأفكار المختلفة كانت الأمور أوضح والثمرة أنضج.

إن الاختلاف بحد ذاته ليست بمشكلة, وإنما تقع المشكلة في عدم قدرتنا على تسخير الاختلاف لصالحنا, فلا الأب قادرٌ على تحمل اختلاف ابنه عنه ولا الابن قادر على تبني أفكار أبيه, فيعيش كلٌ منهما منزوياً عن الآخر فالأب لا يعرف ابنه إلا في شكل أوامر يجب تطبيقها والابن لا يعرف أباه إلا في حاجة أو ما شابه, وما ذلك إلا بمَثَل أضربه لعدم قدرة الطرفين على فهم الآخر وتسخير الاختلاف لصالح الطرفين, فلقد كان بالإمكان أن يستوعب الأب عقلية ولده والتطور الذي وصل إليه جيله, وكذلك الابن فلا ضير من التمسك ببعض التقاليد الغير مخلة بشريعتنا الإسلامية ولا حرج من مسايرة الكبار في عدم قدرتهم على فهم ما وصلت إليه الحضارة, وبالقياس في أي اختلاف بين أي شخصين أو جماعتين كالمعلم والتلميذ والزوج مع زوجته والإمام مع المأمومين فالاختلاف حقيقة لا نستطيع غض البصر عنها, بل هي ظاهرة طبيعية وسنة كونية حيث يبدأ الاختلاف منذ نعومة أظفارنا حينما يبلغ الطفل سن العامين ويحين فطامه حينها يختلف الطفل مع أمه لفطامه فيبدأ بصراخه وعناده وعكفه عن الأكل أو الشرب لفترة ما, تلك الفترة هي فترة اختلاف طبيعية أما بعد ذلك فإن الطفل يعتاد على ما هو عليه فتعود المياه لمجاريها, فقد اقتنع الطفل بالطعام البديل واستوحى من أمه ما يفعله وما يصنعه, وذلك يمكن أن يقاس على اختلافنا في أي أمر فلا أنت تجبرني على إتباعك ولا أنا بمجبرك على إتباعي وقد قال تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ...}البقرة256 فإذا كان لا إكراه في الدين فمن باب أولى أنه لا إكراه في الأفكار والطموح والأهداف, وإنما الحوار الهادئ الذي يجمع وجهات النظر ليخلص بها ما فيه فائدة الأمة.

إن الله تعالى قد جعل سنته الكونية اختلاف الشعوب والأمم فقال: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا...}الحجرات13 فمن سنته تعالى اختلاف الناس بأشكالهم وألوانهم ولغاتهم وجنسياتهم, وقد قال تعالى مشيراً إلى سنته الكونية: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً...}هود118 أي أن يكون الناس كلهم على قلب رجل واحد ولكن بقية الآية: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} وكأن الله يقول للناس أن هذه سنة الله في أرضه وهي اختلاف الناس ولكن الله أردف بالقول: {إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ, وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } وكيف يرحمهم في الاختلاف؟ أي رحمهم باختلافهم في توجيه هذا الاختلاف إلى الناحية الإيجابية وتبادل المنفعة والصناعة من الاختلاف نقطة التقاء توحد جهودنا وتضع الأفكار المختلفة على بعضها البعض لتجعل من ذلك تطوراً, ففكرة شخصٍ واحدٍ لن تكون أبداً كأفكار أناسٍ مجتمعين وتلك هي الشورى -ولذلك خلقنا الله- لنختلف في أفكارنا ونراكم تلك الأفكار لنخرج بالأصح منها والأفضل فيها, ولكن هذا الاختلاف يتحول دماراً ووبالاً على أصحابه إذا لم يستطيعوا تسخيره لصالحهم فقد زاد الخلاف بين ابني آدم وتحول إلى غلٍ وحسد وتضخم فلم يستطع بذلك قابيل أن يتحمل رؤية وجه أخيه هابيل فقتله أعاذنا الله من شر الخلاف.

لكن حديث رسولنا الكريم محمد  rحينما أشار إلى توحد المسلمين في حديثه "مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" قد أشار من خلال حديثه إلى أمرٍ آخر وهو أن الجسد عبارة عن أعضاء مختلفة الوظائف والأدوار والمهام إلا أن هذه الأعضاء توحدت لتصير جسداً واحداً متكاملاً له كيانه, وكذلك الحال في اختلافنا فإنه لا عيب في اختلاف وجهات النظر بل " َلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ " الله, ولكن المهم هنا أن نخرج من دائرة الخلاف إلى التوحد ولم الشمل والتمسك بطوق النجاة وأن نكون صفاً واحداً كالبنيان المرصوص كلٌ بما لديه من مواهب وأفكار تختلف عن الآخر, فالتوحد هنا لا أن نذوب كلنا في كأس واحد بأفكار واحدة ومعتقدات واحدة وبشكل واحد بدعوى التعايش كما قال الأستاذ المفكر عمرو خالد وإنما التعايش والتوحد هو التمسك بأفكاري والاعتزاز بها ودعم الطرف الآخر ما ينقصه مما لدي, وأن يفعل الآخر نحوي ما أفعلُه نحوه, وبذلك تكون الوحدة.

ولا خوف أبداً من إبداء الرأي وتقبل الرأي الآخر, ولكن الخوف ممن لا يستطيعون تحمل عبء الوحدة والتماسك فلا يقبلون النقد ولا يتحملون الملامة وقد علمنا رسولنا الكريم في قوله: "المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يؤذونه" فلا بد من أن تتحمل مسؤوليتك وأن تبدي رأيك وإن خالفك الناس وانتقدوك, فتأخذ نقدهم إن كان صحيحاً وتتركه إن كان خاطئاً فالمؤمن ليس بإمعة أينما ذهب الناس ركض خلفهم.

وإذا اقتنع المجتمع بفكرة الاختلاف وأنه يزيد الأمة ثراءً وغنى من كافة النواحي المختلف فيها, وأنه يجب أن نبحث في اختلافنا عن مساحة مشتركة تجمعنا وتلم شملنا, بعد ذلك يجب علينا أن نتحاور ونتعاون بالشكل الصحيح فإذا كان الله قد أثرى كتابه بآيات الحوار أفلا نكون متحاورون, فالقرآن في الأصل كتاب مليء بالحوار، وعندما تعيش مع آياته وتنظر فيها، تجد الحوار سائد بين الأنبياء وأقوامهم.. سيدنا موسى عليه السلام وحواره مع قومه، والنبي صلى الله عليه وسلم وحواره مع قومه، حوار الابن مع الأب سيدنا إبراهيم وسيدنا إسماعيل عليهما السلام وقضية الذبح، حوار اثنان هما رؤساء سياسيون مع بعضهم سيدنا سليمان عليه السلام وبلقيس، حوار يوسف عليه السلام مع إخوته وحوار يوسف مع قومه إلى آخره من تلك القصص التي تحثنا على الحوار, ولكي يكون الحوار سليماً يجب أن يكون مبنياً على الحب والإخلاص والتعاون في الخيرات فقد قال تعالى: {... وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }المائدة2 والمقصود هنا أن تتبادلوا الاستفادة والتعامل سويا للوصول إلى المبتغى الذي نرجو من الوحدة والتماسك...

ولكي يستمر تماسكنا وتزيد ألفتنا وتزدهر محبتنا ويحلو الصفاء في نفوسنا علينا أن نصلح ما بيننا إن أخطأنا أو اختلفنا, وكثيرةٌ هي العثرات إن لم يكن هناك مقومٌ لها فـالمؤمن مرآة أخيه كما قال النبي r , وقد قال الرسول الكريم r: "ألا أدلكم على درجة أعظم من الصيام والقيام والصدقة؟ فقالوا: ما ذلك يا رسول الله؟ قال: إصلاح ذات البين" وما الآية العظيمة عنا ببعيد حيث قال فيها رب العزة: {... فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ ... }الأنفال1 والآية التي في الحجرات أيضاً: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ...}الحجرات10 والإصلاح يكون بإيجاد تلك المساحة المشتركة بين المتخاصمين فيذهب الخصام وتصفو النفوس.

وأخيراً فإن الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها, فلا نيأس من كثرة الاختلاف الواقع بيننا, ولا نقنط من كثرة عثراتنا, ولنجعل فكرنا يهتم بالبناء والعمل لا بالمراء والجدل فإن الله إذا أراد بقومٍ سوءاً سلّط عليهم الجدل وحرمهم العمل, ولنعلم أن الله تعالى يُيَسّر لنا طريقنا إذا كانت النية سليمة {..إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ..}محمد7 وإن كانت غير ذلك فـ { لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ }محمد32