...

قبل ان تهاجر ..؟


أسامة عبدالستار موسى الفرا 


التفاصيل


                            قبل ان تهاجر ..؟

 

                                                                                        د. عبد الله الفرا

                                                                                                        مستشار اليونسكو واستاذ جامعي سابق

عزيزي القارئ هذه مقالة صيغت في معظمها باسلوب ادبي  كتبتها منذ زمن ليس بقصير وتم نشرها  في اكثر من جريدة وفي اكثر من بلد عربي  , ولقد وجدت من المناسب ان اعيد نشرها  هنا ليتسنى لمن يقرأها ويفكر في الهجرة  ان يعيد حساباته وعلى اسس موضوعية سليمة لكي يتخذ القرار السليم.

 

           لعل كثر من الناس يحلمون بالهجرة الى هذه البلاد التي سحرتهم ببريقها الاخاذ, واستولت على لباب مشاعرهم, بما قرؤوا اوسمعوا من اصدقاء لهم قادتهم اقدارهم نحو تلك الديار, فنسجوا القصص وحبكوا الادوار ,واكثروا التوابل ليسهل التهام الطعام. وفى غمرة ظروف هؤلاء الصعبة والاحباطات التى يواجهونها فى اوطانهم او اماكن وجودهم: اما من حاكم جائر او فقر مدقع او مصير تائه او حرب اكلت الاخضر  واليابس ومن ثم   ضاقت بهم  الارض على رحبها, الى الذين صوروا لهم الهجرة وكانها  رحلة ترفيهية, الى جنة دافنشى ,او حلم ليلة صيف لشكسبير, او ايوتوبيا افلاطون , وبالتالى قلبوا ظهر المجن وباعوا الغالى والرخيص, وبحثوا عن مكاتب الهجرة , وحجزوا على اول طائرة ليصلوا الى ارض الاحلام كندا.  هكذا جاء الشباب والشابات, ونزح الكهول والطاعنات مع الاسر والعائلات من مختلف بقاع عالمنا العربي, جاؤوا الى هذا العالم الجديد مفتونين بتكنولوجيته ,ساعين الى ديموقراطيته,  حالمين بالثراء  ,متعجلين امتلاك السيارة الفارهة والوظيفة المرموقة ودفتر الشيكات وكروت الاعتماد, هذا غير اقتناء اخر مستجدات التكنولوجيا وافرازاتها من الانترنت االسريع والبريد الالكترونى ومحطات التلفزيون الهوائى والكابلى والذى يبث برامج تفوق الخيال عددا وموضوعا الى مفاتيح الارقام لكل غرفة ومنزل وسيارة, وهواتف الشاشات التى تتيح لك وبلمسة من اصغر اصابعك اجراء عمليات البيع والشراء  ,وحجزتذاكر السفر وموائد الطعام , واشياء واشياء  ,!وكانك فى روائع افلام الاستعراض  او   احد ابطال فيلم و مسلسل حرب النجوم الاشهر من شهير والاغرب من الخيال جامح الخيال !!

 

        صحيح كل هذا صحيح  ,وربما اكثربكثير ,  فاالحياة هنا جميلة لامعة  : الطبيعة جميلة جدا , الاشجارباسقة  متناسقة خضراء وصفراء وحمراء, والوان والوان , ظليلة كالخمائل .. ناعمة كالحرير , كانها رسوما  متحركة على شاشةا لتلفاز و  الزهور تتناثر فى كل مكان وبالقانون امام كل منزل ومؤسسة والحشائش الخضراء مسطحات موجودة على طول الطريق وكافة الممرات . والاعتناء بها من تهذيب وتسطير وتمشيط وقص , اكثر من اهتمام الفتاة الفاتنة بتسريحة شعرها او الفتى الانيق بمظهره او بفتل شاربيه !! والناس هنا جم رقيقون مهذبون وكانهم ملائكة  اجسامهم متناسقة اصواتهم همسا  ,كلامهم لحنا وجهوهم ضاحكة وشفاههم مبتسمة لك دوما !! والمنازل هنا جميلة التصميم متناسقة المواقع  ,وامتلاكها اسهل من السهل فبامكانك وبدون اجراءات او تعقيدات  تذكر ان تمتلك بيتا جميلا امامه وخلفه حديقة ذات خضرة يانعة وبعض اشجار التفاح او الاجاص المثمرة ,  كل هذا لا تدفع فيه اكثر من مبلغ بسيط لا يوازى ثمن شقة متواضعة فى عمارة عادية  من عمارات الوطن الحبيب والاغرب انك ربما لا تدفع اى دفعة اولى على الاطلاق ويبدا الدفع بالاقساط  وهى اسهل من  الاسهل سلسة مريحة  لتستمر حتى لاكثر من ثلاثين سنة !ّ! وهكذا السيارة والاثاث وحتى الماكل والمشرب والملبس  وغيره وغيره ,خذ ما تشاء وادفع اقل مما تشاء!!

 

        وحتى ان ضاقت بك الليالى وجفاك النوم فهناك من يسعده ان يحدثك ذكرا اردت اوانثى ,وفى اى شىء تريد او يخطر على بالك ابتداء من الام الوحدة ولواعج  الحبيب  الى روائع القصص ورومانسية الاحلام . كل ذلك حتى تقر عيونك المجهدة و تثقل الجفون الساهرة و تكتحل عيناك بالنوم وتغط فى اسعد الاحلام .

 

 

        كل هذا صحيح بل ربما اكثر واكثر .. التلفزيون والانترنت والصحف يعرضون عليك اشخاصا يسعون لحبك ذكورا واناثا  , تنتقى من صورهم الكاملة  ,بملابس او بدون تكليف !! وفى اوضاع  مرسومة او عارية  بدون  غش اوتزييف !!    المطلوب منك فقط ان تختار اى منهم يصلح لمرافقتك , اوالتشرف بك لاى مكان تريده  ,خاصا كان او  اوعاما ,اوحتى   ليلة بيضاء او ملونة  تقضيها معهم افراد او جماعات اذ لا فرق بين الاصدقاء !! وباختصار كل شىء هنا مباح حتى الصداقة الخاصة بين الرجال والرجال  اوالنساء مع النساء    ( وكلمةصداقة  هنا هى كلمة مهذبة لعلاقة غير مهذبة !! ) وكل هذا مسموح  طالما انه  يتم تحت مظلة القانون ولا يؤذى او يتدخل فى الشؤن  الداخلية او الحرية الشخصية لاى انسان اخر حتى لو كان ابنك اوابنتك ذات السادسة عشرة ربيع, اما اذا تدخلت فى مثل هذه العلاقات و مارست على ابنك اوابنتك البالغة  شيئا مما نسميه نحن  النفوذ و الضغوط والخويف, ففى هذه الحالة ستنال من العقاب مالا تحمد عقباه ولا تتصورمداه  وقد توقع عليك عقوبة التحرش او حتى الاغتصاب. ذلك لان   ابنك وابنتك وبعد هذا السن هم هنا  احرار طلقاء يسكنون وحدهم او مع من يريدون من  الذكور او الاناث يصادقون من يصادقون وبالتالى قدتكتشف ان فتاة ما على علاقة صداقة  كهذه مع اربع اوخمس من الشباب او الشابات اوحتى كهول الفياجرا , المقتربون من الممات  , حيث جهنم وبئس القرار ,  وقد يتباهون بمعاقرة الخمر وممارسة الشذوذ وعمل  الموبقات    كل هذا شىء عادى تحت سيادة القانون  الذى وضع من اجل ان تحترم الحريات  إذ لا يوجد هنا ما نسميه شذوذا او  انحرافات!!

 

        كل هذا صحيح وربما اكثر ولكن لا تتصور انك وحينما تصبح كل هذه الامور حقيقة امامك ستشعر انك سعيدا تعيش  فى جنة الرضوان , العكس قد تاكلك الحسرة ويعتصرك الندم  وتستنتج وبعد فوات الاوان انك لم تنظر للامور بعقلانية وتمعن قبل ان تغامر اوتقامر بالهجرة الى هذه الديار .. فبالاضافة الى عدم رضاك عن علاقات الصداقة هنا وخاصة حينما يكون لك اطفال ,  فهناك اشياء اخرى بدت لك بارقة لامعة ولكنها فى واقعها كئيبة قاتلة فسهولة شراء المنزل والسيارة والاثاث ...الخ يقابلهم ارباح بنكية باهظة قد تصل الى 28% وبعبارة اخرى قد تظل اربع او ست سنوات تسدد فقط ارباح هذه الاقساط ثم بعد ذلك تبدأ فى تسديد الثمن الفعلى لما اشتريت وهكذا تصبح حياتك كلها تسديد اقساط وكلما تصورت ان  ان الفرج قريب كلما غصت اكثر فى وحل الاعماق  ومستنقع الانفاق !! وقد لا تسدد الحساب الا في يوم الحساب!!

 

اما بالنسبة لما كنت عليه من وظيفة مرموقة ومركز رفيع ومن ثم فسوف تجده هنا بانتظارك فهذا وللاسف سيصبح  اضغاث الاحلام , واحلام اليقظه  , وتحتاج الى الكثير من العمل  الشاق, والصبرالايوبى , لتحقق او حتى تصبح قريبة المنال .اذ  ان اول ما يطلب منك اذا اردت ان تتقدم لاى وظيفة تخصصت فى دراستك الجامعية فيها  , هو ان تعادل شهادتك الجامعية بالشهادة المحلية للدولة , حتى لوحصلت عليها من اشهر جامعة غير كندية , فالمطلوب منك  ان  تعادلها  , ومعادلة الشهادة قد يتطلب منك اخذ بعض المقررات الدراسية فى الجامعة والتى قد تاخذ منك اكثر سنين وسنين  واذا تم هذا فى هذه المدة فانت جد محظوظ .  بعد ذلك  مطلوب منك ان  تنضم الى النقابة المختصة لتحصل على رخصة العمل لكي يسمح لك بمزاولة المهنة  حتى لو كنت خارج كندا قد زاولت   المهنة من ريعان صباك وحتى احدودب ظهرك ولمعت فروة راسك, وهذه الرخصة لا تحصل عليها بسهولة وبالتالى فهى تاخذ وقتا اطول واطول , المهم ان الشهادة و الرخصة مطلوبتان هنا  لاى عمل كان  , قد يستثنى من هذين الشرطين حاملوا اعلى الدرجات العلمية كالدكتوراة مثلا وبشرط الحصول عليها من جامعة غربية او امريكية معتمدة ومعروفة, اقول ان عملية الرخصة تاخذ فى العادة وقتا اكثر من المتوقع قد يجعلك تزهد فى المتابعة وتمل الانتظار وتبحث لك عن وظيفة تسد بها رمقك ورمق عائلتك وفى هذه الحالة ستضطر ايها المهاجر  للعمل كبائع في بقالة او كنادل فى كفتيريا اوغاسل صحون  فى مطعم او بائع جرائد وموزع نشرات على المنازل وبالتالى يكون اجرك جد متواضع فى حدود ثمان او تسع  دولارات فى الساعة فى بلد تصل فيه اجرة  ساعة الخبير الواحدة الى اكثر من300دولار وساعة الطبيب العام اكثر من 150 دولار بالطبع يخصم من كل ما سبق الضرائب والتى هي بدورها عالية وباختصار ستجد ان مرتبك فى حالة عثورك على عمل  يكاد بالكاد  يكفيك لاكل مقنن و لتسديد الاقساط  اما الادخار فهو قد ولى الادبار !! اما اذا ابتليت بعدم العمل لعدم وجود هذا العمل فلا مناص من ذهابك الى الشئون الاجتماعية ليخصصوا لك وبعد التيقن من حالتك اعانة اعالة  بمبلغ من المال يكفيك حد شر السؤال .

 

        اما  اذا فكرت فى ان تقوم بمشروع تجارى ,  وتصورت انك ابو الدهاء التجارى  , والحس الربحى الصادق , فسوف تكتشف انك اوقعت نفسك فى فخ قاتل ومستنفع زلق مائل. فالتجارة هنا للشركات الضخمة متعددة الجنسيات والتى تعيش على تقديم كافة الاغراءات لتدخلك قفص الاقساط سابقة الذكر ,و بالتالى فهم منافسون اشداء ويوجهون لك الضربة القاضية خلال اسابيع معدودات,  لتصبح مفلسا تطاردك الضحكات , ستكتشف  ان الخبرة التى احضرتها معك  وللاسف لا تصلح كثيرا هنا وليست ممن يعول عليها .

        

        مشكلة اخرى ستواجهك هى مشكلة اللغة اذا كنت غير متمرس بها وفى هذه الحالة يتعين عليك الذهاب الى المدارس المسائية وهي لحسن الحظ مجانية ولكن مطلوب منك المواظبة على الحضور لتتعلم اللغة على اصولها ومن ثم لا تغرق فى بحورها. 

 

         والان هل انتهت مشاكل الهجرة ؟ للاسف لا فلا زال هناك فى الجعبة الكثير 0اذ ربما نكون قد استعرضنا شيئا من المشاكل المادية ولكن هناك مشاكل نفسية اقسى  على النفس واعقد 0 فهناك مثلا مشكلة الاغتراب فحينما تباعد بك الديار,  وتزداد بك المسافات ,  وتكثر من حولك الاحباطات,  فتستعيد الذكريات وتسترجع مسيرة الحياة0  تتذكر فيما تتذكر ,  الاهل والاحباب,  وتترائى لك وجوه الصحبة والاخيار0ينخرك البعاد ويقتلك الحنين 0 تتذكر مرابع الصبا,  ومداخل الاطلال,  تتمثل لك لقطات الحنان,  وبساطة تلك الحياة 0 عند ذلك يصبح كل شىء فى بلدك له طعم خاص0 ليس علقما كما كان , بل عذبا كفيروز الشطأن !! تصاب بحب جارف لم تعهدك ثناياك نحو وطن تركته  وتاريخ هجرته 0  فتراك وعلى غير عادتك تتنسم اخبار بلدك بمختلف الوسائط والوسائل تراه فى صحن تلفازك الفضائى او فى قناة الانترنت فتزداد زفراتك احتراقا 0 وياتى عيد لبلدك فتجد نفسك منشغلا به وكانه شيئا خاصا بك  وتجد نفسك تتحسس خارطته وتحتضن علمه وتنشد اناشيده وتترنم باهازيجه وانت الاجش الذى لا يحسن الغناء !!

وهنا قد تنحدر منك دمعة ساخنة تمسح بها همومك ولسان حالك يقول :

:بلادى وان جارت على عزيزة      واهلى وان ضنوا على كرام   

 او تنشد فتقول  :

هب ان جنة الخلد اليمن             لا شىء يساوى الوطن  !!

 

       حقا سوف تكابد كل هذا وذاك ولكن ليس معنى هذا الجبن والنكوص , وليس الهدف من هذا المقال هو الهدم لا البناء ,  اذ يجب ان لا ننس ان هناك كثر  قد نجحوا ايما نجاح , ومن ثم فالتعميم هنا غير جائز بل منحاز , كثيرون تساموا على مرحلة الاحزان, و ساروا فى هذا الطريق الشوكى , وبالتالي وصلوا  الى  بر الامان .  كلهم  حضروا الى هنا كمهاجرين عاديين ولكن ما لبث ان  امتلك البعض منهم  المصانع والشركات اوسلسلة من المطاعم الراقية اومجموعة من الاسواق المشهورة فى البلاد. وهناك كثر من الاطباء و اساتذة الجامعات وعلماء  جهابذة يعملون فى مراكز الابحاث وفى مختلف التخصصات . وتجمع هؤلاء وهؤلاء وكونوا الجمعيات والنوادى العربية والاسلامية واصدروا الصحف والمجلات ناطقة بلغتهم الاصلية و بنوا المساجد والمدارس العربية والاسلامية فى كل مدينة . ولعل الامر المفرح هنا انك وبمجرد دخولك للبلاد كمهاجر يحق لك ادخال ابنائك في مدارس الدولة وهي راقية جدا وبالمجان , كذلك يحق لابنائك المقبولين في الجامعات والمعاهد العليا اخذ منحة دراسية وقرض تعليمي تسدده عند التخرج والعمل . اذ هنا يؤمن تعليم الاولاد وحينما يتخرجون سوف يجدون الوظيفة الائقة بهم بعد مدة ليست طويلة ربما في حدود السنة او اقل , مع العلم بانه من السهل جدا ايجاد عمل عادي لهم اثناء دراستهم الثانوية والجامعية ليكون بمثابة دخل اضافي لهم اثناء هذه الفترة الدراسية  كذلك فان الدولة تدعم  مادياوترعى الكثير من البرامج التعليمية للاطفال منذ طفولتهم . كذلك هناك بدل نقدي للاطفال يحصل عليه ولي الامر نظير رعايته لاولاده تحت سن الثامنة عشر , وكذلك الحال للمسنين . أما الرعاية الصحية فهي مجانية والبدل النقدى لرعاية الاولاد والمسنين . والواقع ان المهاجر وبمجرد دخوله يتمتع بجميع الحقوق وعليه نفس الواجبات للمواطن الاصلى ما عدا الترشيح والانتخاب فى الوزارة اومجلس النواب والى حين حصوله على الجنسية .

 

واخيرا فلعله من المهم جدا ان تتمعن في كل ماسبق قبل ان تقرر الهجرة والتي هي وبالتاكيد تحتاج الى  الاعداد والدراسة الجيدة لها ومن ثم , التهيؤ النفسى لها . وعادة ما تبدا عملية الاعداد لها بسؤال بسيط مطلوب الاجابة عليه بكل وضوح وموضوعية وهو مالهدف الرئيسى من الهجرة ؟ اقصد ما هواهم هدف تسعى اليه من هجرتك اوبعبارة ابسط لماذا اهاجر؟ وغنى عن البيان ان هذا الهدف  يجب ان يكون مستحقا للتضحية من اجله والمثابرة لتحقيقة اى هدفا عقلانيا لا هوى شخصيا طارئا او شطحة من شطحات الخيال تجعلك تبنى القصور من الرمال وتحلم بتحقيق كل الامال !!