...

الذكري الخمسون لاستقلال ماليزيا والحلم الفلسطيني


أسامة عبدالستار موسى الفرا 


التفاصيل

الذكري الخمسون لاستقلال ماليزيا والحلم الفلسطيني
2007/09/05



لقد قطعت ماليزيا شوطا طويلا علي طريق التقدم والاستقلال، رغم قصر الحقبة الزمنية قياسا علي عمر الشعوب، فمنذ ان اعلن التنكو عبد الرحمن صرخاته المدوية في الحادي والثلاثين من آب (اغسطس) عام 1957 مرديكا اي الاستقلال وماليزيا تسير بخطي حثيثة حتي وصلت الي مكانتها المرموقة التي هي عليها اليوم، محاولة انجاز مسيرتها نحو سلام دائم واستقرار كامل مع دول الجوار وداخل الشعب الماليزي نفسه المتعدد الاعراق والاديان. ولا يلمس ذلك بشكله ومضمونه الا من يعيش في هذه البلاد الجميلة، التي يدين فيها المسلم والمسيحي والبوذي والهندوسي وأقليات اخري بالولاء الكامل للملك الذي يُنتخب كل خمس سنوات من بين تسعة سلاطين وراثيين يحكمهم نظام برلماني يَنتخب رئيسا للوزراء كل اربعة اعوام. ماليزيا تتكون من اربعة عشر ولاية منها تسع ولايات كل ولاية يحكمها سلطان واربع ولايات كل ولاية يحكمها حاكم، واما الولاية الرابعة عشرة فهي الولاية الفدرالية والتي هي العاصمة كوالالمبور وفيها الحكومة ومقر البرلمان. وحديثا انشئت مدينة تكنولوجية تسمي بوترا جايا وهي بمثابة العاصمة الادارية للدولة حيث انتقلت اليها معظم اجهزة ومؤسسات الدولة.

تموز 1982

وصلت الي ماليزيا كسفير لمنظمة التحرير الفلسطينية في تموز (يوليو) عام 1982 وكانت ماليزيا تحتفل بالذكري الخامسة والعشرين لاستقلالها الذي تم التوصل اليه سلميا مع بريطانيا العظمي. كان مكتب منظمة التحرير الفلسطينية يقع فوق تلة تطل علي منزل التنكو عبد الرحمن والذي هو اول رئيس للوزراء بعد الاستقلال ولذا سمي بأبي الاستقلال ، واشتهر التنكو عبد الرحمن ايضا باعتباره اول سكرتير عام لمنظمة المؤتمر الاسلامي التي انشئت في الرباط عام 1969 اثر الحريق الآثم الذي ألمّ بالمسجد الاقصي.
وقد طلبت من وزارة الخارجية الماليزية ان ترتب لي زيارة مجاملة لكي اتعرف عن قرب علي ابي الاستقلال الماليزي. وذهبت لزيارة الرجل في بيته ووجدته يعيش حياة عادية ومتواضعة لا تزيد عن حياة موظف دولة عادي. وكان قد قارب علي الثمانين من عمره ولكنه يتمتع بذاكرة فولاذية. وكان له مقال اسبوعي في جريدة اسمها ستار Star ولا زالت تصدر هذه الجريدة حتي يومنا هذا. ومن ضمن ما قاله لي:
ان الاستراتيجية العربية لتحرير فلسطين عسكريا قد اثبتت فشلها ليس بسبب تفوق اسرائيل العسكري ولكن بسبب عدم وجود الارادة العربية، ولذا فان البديل هو توحيد الموقف العربي من اجل الأخذ في الاعتبار الطرق السلمية لحل الصراع العربي ـ الاسرائيلي ولن يتأتي ذلك الا بالاعتراف الرسمي للدول العربية بحق اسرائيل في الوجود كحقيقة واقعة ومن ثم تبدأ عملية التفاوض الكاملة .
ولا انكر هنا بأنني كظمت الغيظ ولم اناقشه في رأيه حتي لا تصدر مني كلمة تخرج عن اصول اللياقة الدبلوماسية واستأذنت في الخروج وفي حلقي غصة مما سمعت، وقد ادرك ذلك مندوب وزارة الخارجية المرافق محاولا تهدئتي، ولكنني فكرت مليا ً فيما قاله التنكو وهل يستحق منا فعلا اعادة النظر..؟
ويا تري، هل ما يجري الآن هو محاولات فلسطينية ـ عربية مستميتة لما رآه التنكو عبد الرحمن قبل خمسة وعشرين عاما..؟

تشرين الاول 1991

مقابل مكتب منظمة التحرير الفلسطينية كان يقع مكتب رئيس الوزراء السابق الدكتور محخاتير محمد، المعروف بابي النهضة الماليزية. من الجدير بالذكر ان ماليزيا كانت اول دولة بعد الجزائر تعترف بالدولة الفلسطينية اثر اعلانها في 15 تشرين الثاني (نوفمبر) 1988 وكنت علي وشك انهاء مهمتي كسفير لمنظمة التحرير الفلسطينية ولكني عندما ذهبت الي الرئيس الراحل ياسر عرفات في مقر اقامته في الجزائر بعد انتهائه من اعلان الاستقلال، لأبلغه بقرار اعتراف ماليزيا بالدولة الفلسطينية، بادرني قائلا: انت فين؟ انا بَدوّر عليك فقلت له يا سيادة الرئيس تبحث عني في الساعة الثالثة صباحا، والله لم ارتكب اي جريمة. فضحك رحمه الله وقال: لا.. لا.. بس انا عايزك ترجع ماليزيا، دي اول دولة تعترف فينا.. واعطاني نفس البرقية التي كنت ذاهبا لابلغه بها. وفعلا رجعت الي ماليزيا وقدمت اوراق اعتماد جديدة الي الملك كسفير لدولة فلسطين في تموز (يوليو) 1989.
واثناء انعقاد مؤتمر مدريد للسلام في اعقاب حرب الخليج طلبني مكتب رئيس الوزراء وابلغني بان الدكتور مخاتير محمد رئيس الوزراء يريد مقابلتي فورا، ولا يعرف احد سبب هذا الاستدعاء العاجل. وحال وصولي الي مكتب الرئيس استقبلني قائلا: سأتحدث اليك كرجل ماليزي مخلص وطلب من مساعديه ان يتركوننا وحدنا وقال: اريدك ان تنقل رسالة هامة الي الرئيس ياسر عرفات وهي انه يجب الا يُزج به او يشترك في مؤتمر مدريد بشكل مباشر، لانه لو حدث ذلك سيضطر لقبول تسوية بدون القدس، وان المُبارز الجيد يتراجع خطوة الي الوراء لكي يسدد ضربة قوية الي خصمه. اقول ذلك من باب حرصي الشخصي الشديد علي القضية الفلسطينية وعلي الرئيس ياسر عرفات شخصيا، راجيا ان توفق في نقل رسالتي دون ان يسييء فهمي الرئيس عرفات .
سافرت الي تونس ونقلت الرسالة الي الرئيس الراحل ياسر عرفات ورغم كل ما استعملته من لباقة، الا انني شعرت بان الرئيس عرفات قد امتعض من مضمون الرسالة وعلق قائلا: دا معندوش معلومات وقال للدكتور سامي مسلم ـ مدير مكتبه آنذاك ـ: حَضّر مع احمد تقريرا كاملا عن هذا الموضوع وحملت ملفا كاملا عن سيناريو ما قبل وبعد حرب الخليج مدعما بالوثائق وسلمته للدكتور مخاتير، رئيس الوزراء، الذي لم يتكلف عناء النظر اليه وعلق قائلا: اما انك لم تحسن نقل رسالتي او ان الرئيس ياسر عرفات لم يقتنع بها . حاولت ان اغـلف الموضوع بشكل دبلوماسي لا يُحرج احداً، ولكني شعرت بعدم ارتياح الدكتور مخاتير.تشرين الثاني 2004

دفع الرئيس ياسر عرفات حياته في 11 تشرين الثاني (نوفمبر) 2004 ثمنا لرفضه التسوية التي حاكها ايهود باراك رئيس وزراء اسرائيل مع الرئيس الامريكي بيل كلينتون في كامب ديفيد في تموز (يوليو) 2000 والتي لم تتضمن حل مشكلة القدس واللاجئين.

آذار 2006

اثناء لقائي مع رئيس وزراء ماليزيا السيد عبدالله احمد بدوي في زيارة وداع بمناسبة انتهاء عملي كسفير لفلسطين والذي تربطني به علاقة حميمة قديمة، ورغم انه لم يجر العرف علي استقبال رئيس الوزراء للسفراء بمناسبة انتهاء مهامهم، الا ان الرئيس قد استقبلني في منزله وكان متوعكا قليلا. ولما سألته عن صحته قال: انا اعاني من نوبة برد والغيت كل مواعيدي لهذا اليوم، ولكني لما رأيت اسمك قررت ان أراك لان لدي بعض ما اقوله ايضاً . وتحدث بشكل عام عن مشاكل الامة الاسلامية، وقال: بصفتي رئيسا لمنظمة المؤتمر الاسلامي فان الواجب يحتم عليَّ ان اجد الحلول المناسبة، وهذا ما يستدعي التوقف عند الوصع في فلسطين .واضاف: ان حركة حماس قد فازت في الانتخابات بشكل ديمقراطي، وعلي حركة فتح ان تـُقرَّ بالهزيمة وعليها اعادة ترتيب اوراقها لكي تكسب ثقة الجماهير الفلسطينية من جديد، ويتحتم عليها عدم تقويض جهود حكومة حماس. واذا حدث ذلك فان الخاسرالاكبر هو كلا الحركتين والرابح السعيد في ذلك هو اسرائيل، وسيعاني الفلسطينيون وخاصة في غزة اشد المعاناة .

ايار 2006

قدمت استقالتي كسفير لفلسطين الي الرئيس محمود عباس بتاريخ 29 ايار (مايو) 2006 اثر بعض المماحكات المقيتة بين حركتي فتح وحماس
.
ولا اظنني في حاجة الي التطرق لما آلت اليه الاوضاع الفلسطينية لا سيما بعد سيطرة حماس علي قطاع غزة ومحاصرته اسرائيلياً ودولياً، وكذلك الدعم المسموم الذي تبديه كل من اسرائيل والولايات المتحدة الامريكية الي الرئيس محمود عباس وكأنهم يعرفونه للتو ولا يعلمون انه رئيس السلطة الفلسطينية منذ ما يقارب الثلاثة اعوام.
اننا في حاجة لقيادة تنظر من بعيد وتستقريء الآتي قبل ان يأتي، وتبني ولا تهدم، وتثبت الاقوال بالافعال. وليس عيباً ان نتعلم من تجارب الآخرين، ونعتذر اذا اخطأنا ونصارح شعبنا بشفافية واخلاص ونتنحي اذا فشلنا. فهنيئا لك يا ماليزيا متربعة علي عرش الاستقلال والحرية، فقد رايت فيك كل تلك الخصال التي بها انت علي ما انت فيه اليوم والغد الذي تحلم به فلسطين.



http://www.alquds.co.uk/index.asp?fname=20...%20الفلسطينيfff


احمد الفرا
سفير دولة فلسطين السابق لدي ماليزيا
خبير بمعهد ماليزيا للدراسات الاستراتيجية والدولية