...

القدس والمزاعم اليهودية


أسامة عبدالستار موسى الفرا 


التفاصيل

 

القــدس والمـزاعم اليـهودية


بقلم د.عبد الناصر الفرا

 

المقدمة :

الحمد لله الذي أنزل الكتاب على عبده ولم يجعل له عوجا، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله أجمعين، ورضي الله تبارك وتعالى عن أصحابه  أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وبعد...

فقد ميّزَ الله سبحانه وتعالى مدينة القدس بمكانة خاصة؛ ففيها المسجد الأقصى قبلة المسلمين الأولى ، ومعراج الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ومهد السيد المسيح عليه السلام  ، تعايشت على أرضها الديانات الثلاث ، وهى مدينة السلام كما سماها اليبوسيون في الماضي ، وهى زهرة المدائن كما سماها المسلمون في الحاضر ، وهي أرض الأنبياء التي بنوها وعمروها كما قال الخرساني :

"بيت المقدس بنته الأنبياء وعمرته الأنبياء

ووالله ما فيه شبر إلا وقد سجد فيه نبي"

 

من المعروف أن أول اسم أطلق على مدينة القدس هو "يبوس" نسبة إلى اليبوسيون وسميت مدينة "داوود" عام 1049 ق.م وسميت "أورسالم" زمن البابليين عام 559 ق.م، وأورسالم بالغة الكلدانية تعني مدينة السلام وسميت "ايلياكابتولينا " زمن الإمبراطور الروماني هدريان عام138م ، بقيت تحمل هذا الاسم حتى عهد هرقل عام 627م، ثم فتحها المسلمون وسميت بيت المقدس ومدينة القدس.

كل هذه الأسماء التي سميت بها مدينة القدس اشتقت من اللغة العربية والكنعانية أو الفارسية أو اليونانية أو الرومانية أو البيزنطية أو الإسلامية.

قدَر علماء التاريخ عمر القدس ب 38 ألف سنة أما علماء الآثار فقدروه بستة آلاف سنة، والحقيقة أن عمر القدس هو حوالي ثمانية وثلاثون قرنا، لأن مؤسسها ملكي صادق كان معاصرا أو صديقا لخليل الرحمن إبراهيم عليه السلام، وأن إبراهيم عليه السلام عاش في فترة قريبة من عام 1850ق.م .

القبائل الأولى التي سكنت مدينة القدس :

القبائل الأولى التي سكنت القدس هي : اليبوسيون ، والعناقيون ، والحويون ، والجرجاشيين والعمالقة.

وحول ديانة الكنعانيين فالمثبت أنهم كانوا يقدسون مظاهر الطبيعة وكان لهم ثلاثة آلهة :-

1- إله الجو: وهو الإله الأب

2- إله الأرض: وهي الإلهة الأم

3- الإله الأعلى: وهو الإله إيل وكان يعد إله المطر والمحاصيل.

أول دخول لبني إسرائيل إلى فلسطين كان بعد وفاة موسى عليه السلام في القرن الثاني عشر تحت قيادة "يشوع بن نون" ، وأول أعماله هجومه على أريحا وقتل الكثير من أهلها، حاول دخول يبوس إلا إنّه فشل، وهذا يبيَن أن بني إسرائيل أتباع موسى ليس لهم حق في فلسطين لأنهم دخلوها بالحرب ضد الكنعانيون ، و لم يكن لهم وجود في مصر وأن الفراعنة هم من كان يحكم مصر.

وسمنذ عهد سيدنا موسى وحتى عهد سيدنا سليمان عليهما السلام، لم يمتلك اليهود مكاناً مقدساً للعبادة ، فكانوا يضعون الوصايا العشر في تابوت أطلق عليه اسم " تابوت العهد " وخصصوا له خيمة سموها " خيمة الاجتماع " وكانت هذه الخيمة تنتقل معهم أينما ذهبوا .

بعد وفاة سيدنا سليمان عليه السلام ،تولى حكم مملكة إسرائيل ابنه رحبعام ، وفي عهده انقسمت مملكة إسرائيل إلى مملكتين ، مملكة السامرة وعاصمتها نابلس وملكها  يربعام ، ومملكة يهوذا وملكها رحبعام . عاشت مملكة يهوذا 337سنة حكمها عشرون ملكاً ، وبهذا تكون مملكة إسرائيل قد عاشت موحدة ما يقارب الثمانين عاماً ، وهي فترة داود وابنه سليمان عليهما السلام ، أما مملكة السامرة فامتد حكمها من 923-721ق.م ، وكانت أغنى من مملكة يهوذا ، عاشت هاتين المملكتين صراعات مريرة على الحكم .

رفض سكان مملكة السامرة الاعتراف برحبعام بن سليمان ، واعترفوا بيربعام بن ناباط ملكاً عليهم وتأثروا بديانة الكنعانيين، فعبدوا إيل وتركوا يهوه ، حاول يربعام توسيع مملكته على حساب الآموريين لكنهم فشلوا بسبب تدخل " سرجون الثاني " الذي دخل السامرة وسبى رجالها إلى آشور ، وبهذا السبي انتهت مملكة السامرة .

وبالنسبة لمملكة يهوذا ، فقد قام فرعون مصر " شيشاق " باحتلالها ، واحتل معها مملكة السامرة ، فغصب البابليون حلفاء الاشوريين ، وتحرك القائد البابلي " نبوخذ نصر " في عام 586ق.م ، واحتل القدس " أورشليم " عاصمة يهوذا ودمرها ودمر الهيكل وأحرقه وأخذ ملك اليهود " يهوياكين" وعائلته ورؤساء اليهود مع حوالي عشرة آلاف وسباهم إلى بابل وهذا ما عُرف في التاريخ بالسبي البابلي الأول.

تم إعادة بناء الهيكل وأطلق عليه اسم هيكل " زربابل " أو الهيكل الثاني وبسبب ثورة اليهود ضد الرومان ، قام الإمبراطور الروماني " سباسيان " بإرسال ابنه "تيطس " على رأس جيش كبير لتحرير أورشليم ، فدخل " تيطس"  أورشاليم ودمر المباني بما في فيها الهيكل .

عام 313م اعتلى الإمبراطور قسطنطين عرش روما ، واعتنق المسيحية وبدأ ببناء الكنائس ، أما مكان الهيكل فجعلته الإمبراطورة هيلانة والدة قسطنطين مكاناً لرمي القمامات نكاية في اليهود .

تأسيس مدينة القدس :

أول من وضع اللبنة الأولى في القدس هو " ملكي صادق " وهو ملك اليبوسيين ؛ واليبوسيون هم بطن من بطون العرب البائدة، و المعروف أن الكنعانيين عاشوا في القدس وشكلوا أعظم الحضارات وبنوا المدن قبل حوالي 5000 سنة ، وبهذا تكون مدينة القدس قد أقيمت قبل قدوم العبرانيين إليها بحوالي 2000 سنة .

سمَى العبرانيون بهذا الاسم لأنهم عبروا البحر الأحمر مع موسى عليه السلام ولم يسموا عبرانيين لأنهم أتباع إبراهيم عليه السلام ، وكل من قال إن العبرانيين سموا بهذا الاسم نسبة لعابر بن شالخ بن ارفخشذ بن سام بن نوح عليه السلام فهو غير صحيح ؛ لأنه لو صح هذا الأمر لكان العرب العاربة والمستعربة عبرانيين لأن أصلهم ينتهى إلى عابر بن شالخ ، وكل من قال بأن العبرانيين هم عشيرة إبراهيم عليه السلام؛ لأنهم عبروا معه من العراق إلى أرض كنعان فهذا أيضاً غير صحيح ، لأنه لو صح ذلك لكان العدنانيون من العرب هم أيضاً عبرانيين ، لأن نسلهم يعود إلى إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام ، وعلاوة على ذلك فإن لفظة عبرانيين عُرفت فقط بعد انتقال بني إسرائيل إلى أرض كنعان .

أرادوا اليهود قديماً صلب السيد المسيح عليه السلام ؛ فنجاه الله عندما أرسل لهم رجلاً آخر يشبهه ، وذبحوا يحيي عليه السلام  ،وفصلوا رأسه عن جسده ، ثم قدموه للعاشقة التي طلبت رأسه مهراً لزواجها من عمها ، وقتلوا زكريا عليه السلام ، وقتلوا يوشع بن نون ، وكفروا بموسى عليه السلام وكادوا يقتلون أخاه هارون ، رغم أن الله نجاهم من فرعون وظلل عليهم الغمام وأنزل عليهم المن والسلوى وغير ذلك . وتربصوا بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم ، وتحينوا الفرصة لقتله عندما ذهب إلى محلة بني النضير قرب قباء ، ودسوا السم له عندما قدَموا إليه شاة في خيبر .

ويدنس اليهود حديثاً القدس وينتهكون حرماتها ويقتلون أهلها ، وقد وشردوهم من ديارهم مثل مجزرة دير ياسين وكفر قاسم وغيرها ، وحرقوا المسجد الأقصى ، والهدف من ذلك هو إزالته ليقيموا مكانة الهيكل ، تمهيداً لشطب كل الآثار الإسلامية والعربية وإلغائها من المدينة المقدسة لتكون مدينة يهودية .

أسفار التوراة:

إن أسفار التوراة لم تنزل على موسى عليه السلام ولم يكتبها وحتى سفر التكوين لم ينسب لموسى عليه السلام أيه عبارة ، وإن التوراة كتبت في القرن السادس قبل الميلاد ، وحسب ما أكده علماء التاريخ ومنهم " أدوف لودس " أن التوراة عبارة عن قصص قديمة أختارها كُتّاب الأسفار وكلها متناقضات ، وهذا يدل على كثرة الأيدي التي كتبتها .

المزاعم اليهودية :

يدعى اليهود والكثير من المؤرخين أن مكان الهيكل في القدس وبالتحديد تحت المسجد الأقصى ، حتى إن المؤرخون المسلمين تكلموا عنه واعتبروه حقيقة تحت المسجد الأقصى ولكن الآتي يثبت عدم صحة ذلك :

أولاً : القرآن الكريم تكلم عن داود وعن ابنه سليمان ، وعن حياة سليمان وقصصه مع بلقيس والهدهد والنملة ومع الجن وعن أحداث تبدوا أقل أهمية من الهيكل فلماذا لم يتكلم عن الهيكل؟! .

وعندما تكلم المؤرخون المسلمون عن سليمان عليه السلام استشهدوا بالقرآن وعندما تكلموا عن الهيكل لم يستشهدوا بالقرآن ، لأن القرآن لم يتكلم عن الهيكل .

ثانياً : معظم كتابات المؤرخين ، أُخذت من التوراة ، وقدّ كتبت التوراة في فترة لاحقة لظهور اليهود في فلسطين بأكثر من سبعمائة سنة ، ومعظمها كتب بعد سبي اليهود إلى بابل ، لهذا كتبت موضوعاتها بطريقة تربط اليهود بفلسطين .

ثالثاً : اليهود منذ موسى عليه السلام حتى داود وابنه سليمان عليهما السلام ، كانوا لا يتفقون مع أنبيائهم ، بل كانوا يقتلون الأنبياء ، وكادوا يقتلون هارون عندما ذهب موسى عليه السلام لميقات الله ، وأن اليهود الذين آمنوا بداود وسليمان كانوا قلة ، وخاصة بعد وفاة سليمان اختلف اليهود وانقسموا على أنفسهم ،وهذه القلة التي آمنت بسليمان كانت مسلمة ، لأن سليمان كان يدعو إلى عبادة الله وحده ولم يقل عزير ابن الله ، أو عيسى ابن الله ، بل دعا إلى الإسلام ، والدليل أنه عندما دعا بلقيس كتب إليها يقول :

" إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ألاّ تعلوا عليَّ وأتوني مسلمين "                           

وإذا كان أتباع سيدنا سليمان قلة فلماذا يبنى لهم هيكلاً ضخماً يستغرق بناؤه سبع سنوات والآلاف من العمال والفنيين والمهرة والمهندسين !

رابعاً : لا يُجمع اليهود على هيكل واحد ، فيهود مملكة السامرة يقولون بأن هيكلهم في مدينة نابلس " شكيم" ، ولا وجود له في القدس ، والبعض الآخر من اليهود يقول إن معبدهم أُقيم في قرية " بيتين" شمال القدس ، والمجموعة الثالثة تقول إن هيكلها أُقيم على تل القاضي "دان" والآن عن أي هيكل يبحث اليهود؟ ولو كان هناك أكثر من هيكل فأين هي ؟ .

خامساً : إن الهياكل التي ورد ذكرها - لو قلنا فعلاً إنها أُقيمت في تلك الفترات - فإن مَنْ ذَكَرَهَا أَثبتَ تدميرها تدميراً نهائياً ، حتى مدينة أورشليم خربت وأصبحت خراباً يباباً بما فيها الهيكل فهيكل سليمان دمره نبوخذ نصر ، وهيكل زربابل وهيكل هيرودس دمرهما تيطس         عام 70م ، فالبحث عن الهيكل عبث .

سادساً : لو أن هناك هيكلاً كما يدعي اليهود أو أكثر من هيكل ، فأين هي ؟ علماء الآثار والمنقبون لم يدخروا جهداً في البحث عن الهيكل ولم يجدوا أي مواصفات متطابقة للهيكل المزعوم .

سابعاً : لو فرضنا أن داود عليه السلام أسس للهيكل وأن ابنه سليمان أقامه ، فإن هذا الهيكل يكون مسجداً لمن آمن بهما وبكل الأنبياء والرسل ، الذين لا يفرقون بين أنبياء الله أي للمسلمين الذين يقولون :

" آمَنَ الرّسُولُ بِمَا أُنزلَ إِليهِ مِن رّبِهِ وَالمُؤمِنُونَ كُلّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلائكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا ُنفُرّقُ بَينَ أَحَدٍ مّن رُسُلِهِ وَقَاُلوا سَمِعنَا وَأَطعنَا غُفرَانَكَ رَبّناَ وَإليَكَ المصَيِرُ"(سورة البقرة ، آية 285)

ولا يكون هيكلاً لتكريس الشرك ، أو يكون هيكلاً لقتلة الأنبياء .

ثامناً : أثبتت دائرة المعارف البريطانية أنه لا يوجد أثر يبين أو يثبت أي وجود للهيكل تحت الأقصى ، لأن نبوخذ نصر وتيطس وهدريان وغيرهم دمروا المدينة ودمروا الهيكل وطمسوا كل المعالم .

تاسعاً : إن مدينة القدس أُقيمت قبل قدوم العبرانيين إلى فلسطين بحوالي 2000سنة ، أي قبل مجيء اسحاق ويعقوب وموسى عليهم السلام إلى الدنيا . وعلاوة على كل ما بينته أعلاه ، فإن اليهود عندما تركوا مصر بصحبة موسى عليه السلام لم يدخل عليه السلام فلسطين لأنه توفيَّ قبل دخول أرض كنعان "فلسطين" ،وخلفه يوشع بن نون الذي دخل فلسطين محتلاً ، وحتى داود عليه السلام ، دخل القدس محارباً ومحتلاً وغيّر اسمها إلى اسم " مدينة داود " ، ومن بعده سليمان وبعد سليمان رحبعام بن سليمان وفي عهده رحبعام انقسمت مملكة إسرائيل إلى مملكتين متحاربتين ، وبَعد حوالي ثلاثة قرون ونصف انتهت المملكتان وسُبي اليهود إلى بابل وإلى فارس وتشتتوا ثم عادوا ثم تشتتوا وهاهم في القرن العشرين يعودون بحجة الهيكل وبحجة أرض الميعاد .

عاشراً : كل الدلائل التاريخية تفيد أن الذي بنى المسجد الأقصى هو يعقوب عليه السلام ، والمدة الزمنية بين يعقوب عليه السلام وسليمان عليه السلام حوالي ألف سنة ، فليس من المعقول أن يقوم سيدنا سليمان عليه السلام بهدم مكان بناه نبي مثله وخصصه للعبادة ، ليقيم عليه هيكلاً .

حادي عشر : أثبت المؤرخون أن كلاً من هيكل سليمان أو ما يسمى بالهيكل الأول ، وهيكل زربابل أي الهيكل الثاني قد تهدما ، ولم يثبت التاريخ هدم المسجد الأقصى ، إلاّ أنه تعرض لبعض الزلازل خاصة في العهد العباسي ، وهذا دليل قاطع على أن مكان الهيكل ليس تحت المسجد الأقصى .

 لا يعترف اليهود بالمسجد الأقصى ، لهذا شكلوا حوالي خمسة عشرة منظمة بهدف هدمه وإعادة بناء هيكل سليمان في نفس المكان ، لأنهم يعتقدون أن عبادتهم تكون منقوصة إذا لم يقدموا الذبائح الكفارية .

        ومن أهم هذه المنظمات ، جماعة تطلق على نفسها اسم " جماعة أمناء الهيكل " وهي جماعة دينية متطرفة تؤمن بإعادة بناء هيكل سليمان على أنقاض المسجد الأقصى ، وتؤكد هذه الجماعة بأن مكان الهيكل الذي دمره تيطس هو المكان الذي أقيم عليه المسجد الأقصى .

قال بن غوريون : " لا معنى لإسرائيل بدون القدس ، ولا معني للقدس بدون الهيكل ، لهذا منذ عام 1967م يعمل اليهود على تهويد القدس وذلك بمصادرة الأراضي وبناء وحدات ومستوطنات يهودية عليها وبالمضايقات على سكان المدينة لتهجيرهم ، واللافت للنظر في هذا السياق هو أن العرب والمسلمين وغيرهم ممن يتحمل المسؤولية لم يحركوا ساكن رغم التغيير المستمر والتهويد المستمر .