...

أبو هادي .. عفواً نحن في زمن الانحطاط


أسامة عبدالستار موسى الفرا 


التفاصيل

لقاء السبت

أبو هادي .. عفواً نحن في زمن الانحطاط

بقلم : أبو يسار

 

 

بينما أضع عنوان مقالي هذا اليوم ، تذكرت أنه ليس من بنات أفكاري وإنما هو اقتباس ، فصاحب هذا العنوان هو صديق قديم تعرفت عليه في بداية الثمانينات من القرن الماضي ، عندما كان شاباً يافعاً ، وصحفياً لامعاً رغم حداثة سنه آنذاك ، كان محمد جاسم الصقر صاحب ورئيس تحرير جريدة القبس الكويتية عندما يرى منظراً مسيئاً أو يسمع جملة لا تعجبه أو يرى شخصاً من الهابطين بالبراشوت أو القافزين سلالم المسؤولية أو يرى الصحافة المخملية وقد غزت واستحوذت على عقل القارئ العربي كان يقول وكنوع من عزاء النفس والآخرين ( نحن نعيش في بدايات عصر الانحطاط )، وبُعيد اغتيال رسام الكاريكاتير العربي الفنان ناجي العلي والذي كان يعمل في جريدة القبس ( النسخة الدولية التي كانت تصدر في لندن آنذاك ) .........، كنت وإياه معاً في بيت الشهيد نعزي السيدة أم خالد أرملة الفنان المغدور، فقال نحن الآن في زمن الانحطاط، وباتت أجسادنا غارقة فيه ولم يبقى إلا رؤوسنا تتنفس، وأخشى أن تغرق رؤوسنا أيضاً لنتنفس ونأكل ونكتب ونعيش زمن الانحطاط بكل تفاصيله، والشاطر من يستطيع أن يسبح فوق أمواج هذا الزمن العاتية دون أن تنكسر رقبته أو ضلوعه أو الاثنين معاً.

آنذاك غزت السوق صحيفة مخملية تهتم بالمرأة.. امرأة الصالونات وليست المرأة المطحونة بهموم الحياة اليومية، سألته عن هذه الصحيفة ومن ورائها فقال يا عزيزي لما تسأل؟.. إنها صحافة زمن الانحطاط، حيث بات كل من يملك المال قادراً على شراء أشهر الأقلام وتجنيدها لفعل ما يريد، للمال سرّ باتع، ولكي يُرضي فضولي للمعرفة قال إنها للسيدة سميرة خاشقجي ( شقيقة الملياردير آنذاك عدنان خاشقجي تاجر السلاح المعروف، وزوجة محمد الفايد الذي كان يعمل قبل زواجه منها مستخدماً لدى شقيقها عدنان فأحبته وتزوجته دون رضى شقيقها، وانفصلت بزوجها الفايد عن شقيقها بثروتها وعملت تلك الصحيفة المخملية، ثم ضاعت هي ومعها صحيفتها بعد أن استولى الفايد على ثروتها وبات اسماً لامعاً في سماء لندن منذ تسعينات القرن الماضي وحتى الآن.

بعيد احتلال الكويت من قبل العراق في 2-8-1990 استولى العراقيون على دور ومطابع كل الصحف الكويتية ومن بينها صحيفة القبس التي كانت تعتبر منبراً مدافعاً عن النظام العراقي أبان فترة حربه الضروس مع إيران، وكثيراً ما صنّف بعض الكويتيين لاسيما أعضاء من الأسرة الحاكمة صديقي محمد جاسم الصقر بأنه عراقي الهوى بل أكثر من ذلك بأنه صدّامي الهوى، وكنت من معارضي الحرب الإيرانية العراقية بشدّة وأعتبرها تخدم العدو الصهيوني وأمريكا معاً وكان الصقر يؤكد أنه بالرغم من ذلك لابد من دعم العراق والوقوف خلف صدام حسين، وقد كوفئ المسكين بأن أول ما فعله صدام حسين هو الاستيلاء على صحيفته وتحريرها وتحويل اسمها إلى النداء التي صدرت بعيد احتلال الكويت مباشرة!! وعندما سألت الصقر عن وجهة نظره قال أيضاً ( نحن نغرق في زمن الانحطاط ).

في 28-2-1991 تحررت الكويت من الاحتلال العراقي وحل محل الاحتلال العراقي احتلال متعدد الجنسيات تحت العلم الأمريكي وعاد الصقر إلى الكويت وسألته كيف يرى الأمور الآن فقال أيضاً ( لقد غرقنا تماماً في زمن الانحطاط ) ثم أردف وقال ( .. إنه زمن الانحطاط .. عدوّك يحرّرك ويخلصك من قهر وظلم أخيك ) ..بعد ذلك اتجه صديقي للعمل السياسي وخاض الانتخابات البرلمانية في الكويت وأصبح عضواً في مجلس الأمة وحتى الآن، ومنذ عام 1999 لم أره بسبب عودتي للوطن الذي بات سجناً كبيراً، نتحادث قليلاً عبر الهاتف، ولكن كما يقولون ( البعيد عن العين بعيد عن القلب ) .

ما الذي أرجعني للوراء عقدين ونصف؟ إنه غياب أبو هادي.. الرجل الذي عاش عصر النهوض والمد العربي القومي، وخاض حروباً ضروسة مدافعاً عن الحق العربي دون أن يحمل رشاشاً أو مدفعاً، وقهر العدو مراراً وفي أكثر من جولة وفي أهم ميادين الصراع، لا أريد تكرار ما كتبه أستاذنا الدكتور محمد علي الفرا، والذي بخاتمة مقاله عن أبي هادي أوحى إليّ بهذه السطور ، لقد شعرت بمرارة لم أتذوقها في حياتي عندما عرفت ومن مقال أستاذنا الكبير الدكتور محمد علي في رثاء المناضل الكبير من أجل الحرية والحق العربي أبو هادي أن جنازته قد خلت من أي مسؤول رسمي؟!، صحيح أن الدكتور محمد حسين الفرا الذي انتقلت روحه إلى الرفيق الأعلى وفي جنات الخلد إن شاء الله لا ينتظر من هؤلاء المخصيين المشاركة في جنازته كونه يعرف مسبقاً أننا نعيش في زمن الانحطاط، الدكتور الفرا وهو الاسم الأشهر للفقيد والذي عرف به في المحافل الدولية والرسمية، أبو هادي الاسم المحبب لنا وللفقيد، المحارب الشرس من أجل الحرية، ومن أجل الوحدة، ومن أجل الحق العربي، ومن أجل اقتصاد مستقل غير مرتبط يخدم الأمة وقضاياها المصيرية، ومن أجل عروبة القدس وفلسطين، لم يترجّل بالأمس حين صعدت روحه إلى السماء، وإنما ترجل مبكراً عندما أثر الانسحاب سليماً معافى من تيار زمن الانحطاط حافظاً اسمه وتاريخه من التلوث، ليظل اسمه منقوشاً ووهاجاً على صفحات تاريخ العرب وليس الفلسطينيون فقط، محمد حسين الفرا ( أبو هادي ).. لا أكتب لك رثاءً ولا أكتب عنك لأنك تخصني.. بل أكتب عنك كمناضل وهبت حياتك للأمة العربية والوطن العربي قبل الشعب الفلسطيني وفلسطين، منذ عام 1968 وحتى اليوم وأنا أفاخر بك وأفتخر وأعرف أنك لا تحب ذلك فأنت المتواضع والخجول، أنت الرجل الفارس الذي لم يتبجح ولم يفاخر رغم ما قدمته من جهد وعرق وأيام وشهور وسنين من عمرك في محراب قضية العرب وفلسطين، وفي كل المواقع، أنا على يقين أنك لم تكن باحثاً عن ثروة أو جاه، ولو أنك أردتهما لزحفا إليك أينما شئت دون عناء، عفواً أبو هادي.. فزمن الانحطاط أفرز الرويبضة والمنافقين وكذابين الزقه السائرين كالطبالين في مواكب ( العوالم )، أنا على يقين أن روحك الطاهرة  ترفض أن يزفها هؤلاء الرويبضات إلى الجنة، وعلى الرغم من ذلك كنت أتمنى أن تزفك الجامعة العربية ومنظمة التحرير الفلسطينية والحكومة الأردنية معاً، ولكن الرجال اليوم والأوفياء باتوا قليلاً؛ عزائي لنفسي أن السيدة الفاضلة أم هادي رفيقة دربك، تدرك ما كنت أنت تدركه،  وأن هادي الرجل يدرك ما أدركته وكذلك هبة فهما شبلان من ذاك الأسد، لك الجنة أبا هادي.. ذكراك فينا ما حيينا، سلمتِ يا أم هادي أيتها الجليلة، سلمت يا هادي.. وأنت يا هبة، يكفيكما فخراً واعتزازاً أنكما من صلب ذاك الرجل العلم المناضل محمد حسين الفرا.